السوفييت وتقسيم فلسطين: إضاءات على كارثة تاريخية وأيديولوجية وجيو – سياسية – مسعد عربيد

الجزء الأول

من أحداث التاريخ ما يحق لنا أن نصفها بالمفصلية، بل هي أحداث تترك بصماتها لزمنٍ طويل قادم، ولأنها ليست عابرة فإن تداعياتها لا تنقضي بزوال أو تراجع آثارها الفورية، بل بقدر ما تؤثر على مصالح الشعوب ومستقبلها. وقد مرّت بالقضية الفلسطينية بالكثير من مثل هذه الأحداث التي تستدعي فتح ملفاتها من جديد، ولا شك أن قرار تقسيم فلسطين، والذي تمرّ علينا ذكراه هذه الأيام، واحدٌ منها.

نبدأ بالتذكير بأن قرارات المنظمات الدولية (الأمم المتحدة ومثيلاتها) هي تعبير عن موازين القوى في مستوياتها المحلية والإقليمية والدولية، وهي ما تعكسه وتعبِّر عنه ما تُسمى ب “الشرعية الدولية” أو “المجتمع الدولي” أو شرعية وقانونية قرارات الأمم المتحدة، والتي لا تعنى على وجه الإطلاق أنها قرارت عادلة أو منصفة.

هذا ما يجب أن ندركه، كما يدركه كل مَنْ قرأ التاريخ

.

بناءً عليه، ليس من المغالاة القول إن قرار تقسيم فلسطين – قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة رقم 181 بتاريخ 29 نوفمبر 1947- جاء تعبيراً عن ميزان القوى المحلية والدولية في تلك الآونة. وعلى الرغم من أن بعضهم يرى فيه قراراً “قانونياً” من حيث أنه صادر عن المنظمة الدولية، إلاّ أنه قرار ظالم ومجحف بحقوق الشعب الفلسطيني والأمة العربية.

لقد كان الموقف السوفييتي الداعم للقرار مدعاةً لاستغراب الكثيرين من العرب وغير العرب الذين لم يتوقعوا دعم الاتحاد السوفييتي لمشروع استيطاني استعماري يدّعي أنه جاء لإنشاء “وطن قومي” لليهود على حساب شعب آخر. وأسباب هذا الاستغراب متعددة، منها الإستراتيجية والسياسية والأيديولوجية، خاصة وأن هذا القرار جاء بعد عامين من نهاية الحرب العالمية الثانية التي يسميها السوفييت “بالحرب الوطنية العظمى” والتي قاتلت فيها الشعوب السوفييتية قتالاً بطولياً ودفعت ما يزيد عن ستة وعشرين مليوناً من أبنائها في محاربة النازية والفاشية.

كثيرة هي الكتابات التي تناولت قرار تقسيم فلسطين، ولكن هدفنا هنا من تناول الموقف السوفييتي الداعم لهذا القرار، هو التأكيد على ثلاث مسائل أساسية:

الأولى، أن كثيرين قد برروا موقف الاتحاد السوفييتي على أرضية البراغماتية السياسية باعتباره “تعبيراً عن مصالحه السياسية والجيو- إستراتيجية” في تلك المرحلة، ولكنه في الحقيقة كان مناقضاً لأسس ومبادئ الماركسية – اللينينية التي أكدّت دوماً على دعمها لكفاح الشعوب المستعمَرة من أجل التحرير والاستقلال، ناهيك عن أنه ينافي القيم الأخلاقية من حيث أنه يدعو لإنشاء “وطن قومي” لليهود على حساب الشعب الفلسطيني.

والمسألة الثانية، هي أن تبعية العديد من الأحزاب الشيوعية واليسارية العربية للموقف السوفييتي وانسياقها وراءه، كان خطأً وخطيئة بحق فلسطين وشعبها والأمة العربية.

أما المسألة الثالثة، والتي كثيراً ما تضيع في الخطاب السياسي والإعلامي، فهي ضرورة صياغة فهم موضوعي ودقيق لدور الأصدقاء والحلفاء في نضالنا. ويتمثل هذا الدور بدعم نضالنا والوقوف معنا في كفاحنا من أجل القضايا العادلة، أي أنه دور داعم لقضايانا ونضالنا، أمّا مسؤولية النضال الأساسية فتقع على عاتقنا نحن، وأن دعم الحلفاء يرفد نضالنا وينسجم بالضرورة مع تلاقي المصالح والأهداف مع هؤلاء الحلفاء.  

تنبع أهمية مناقشة الموقف السوفييتي من عدة عوامل أهمها:

أ) الآثار الجسيمة التي خلّفها هذا القرار على مجمل تلك المرحلة وتأسيس الكيان الصهيوني ومستقبل الوطن العربي وخاصة المشرق منه.

ب) الالتزام الأيديولوجي للحزب الشيوعي السوفييتي بالماركسية – اللينينية، وهي الأيديولوجيا التي حكمت سياسات الدولة والحزب خلال الحقبة السوفييتية، وما يعنيه هذا الالتزام من دعم الشعوب المستعمَرة التي تكافح من أجل تحرير بلادها.

ج) كون الاتحاد السوفييتي صاحب أول ثورة اشتراكية في التاريخ الحديث.[1]

د) الانتصار السوفييتي على النازية وجسامة التضحيات البشرية والمادية التي قدّمتها الشعوب السوفييتية للخلاص منها وإنقاذ العالم من جرائمها.

ه) ولا يقل أهمية عن هذ كله، ما خلّفه الموقف السوفييتي من تأثيرات جسيمة على الحركة الشيوعية والعمالية العربية والعالمية، تلك التأثيرات التي لا تزال تثقل كاهل هذه الحركة وتبدد جهودها وتشتت قواها وتياراتها في العديد من النزاعات والخلافات.

إن النظر إلى قرار تقسيم فلسطين والموقف السوفييتي الداعم له، من زاوية هذه العوامل يضيء على سياسات الاتحاد السوفييتي وركائزها في تلك الحقبة، ويقودنا إلى فهم جسامة الخطأ الذي وقع فيه السوفييت، كما وقعت فيه أحزابنا التي التزمت بموقفهم التزاماً أعمى ومنافٍ لمصالح شعوبنا.

قبل الدخول في مناقشة الموقف السوفييتي من هذا القرار يجدر بنا أن نعرض بعض الحيثيات الأساسية لهذا القرار.

بعد اندلاع الثورة الفلسطينية عام 1936، شكّلت الحكومة البريطانية لجنة تحقيق وتقصي الحقائق ودراسة الأسباب التي أدّت إلى تلك الثورة، وعينت إيرل بيل Earl Peel رئيساً لها. وقد رأت لجنة بيل Peel Commission أن الهوة بين العرب واليهود كبيرة وآخذة في الاتساع وأن تقسيم البلاد هو الطريقة الوحيدة للتعامل مع المشكلة. بناءً عليه أوصت اللجنة في تقريرها النهائي (7 يوليو 1937) بتقسيم فلسطين إلى دولة يهودية ودولة عربية تتحد مع شرق الأردن، ومنطقة، بما في ذلك القدس، تظل تحت الانتداب البريطاني. هنا تكمن جذور فكرة تقسيم فلسطين. وقد قبلت القيادة الصهيونية مبدأ التقسيم واستعدت للمساومة على التفاصيل، ولكن القيادة العربية رفضته وأصرت على المطالبةً بكامل فلسطين.  

من أهم ما نصّ عليه هذا القرار[2]:

– إنهاء الانتداب البريطاني عن فلسطين؛

– تقسيم فلسطين الى دولتين: عربية ويهودية بحدود محددة؛

– قيام تعاون اقتصادي بين هاتين الدولتين؛

– إيجاد وضع خاص لمدينة القدس واعتبارها منطقة دولية.

وظيفة القرار: التمهيد لإقامة الكيان الصهيوني

لم يكن خافياً على القوى العظمى، صانعة القرار في الأمم المتحدة آنذاك ومن ضمنها بالطبع الاتحاد السوفييتي:

أ) أن الحركة الصهيونية (والقوى الإمبريالية الغربية الراعية لها) كانت واضحة منذ تأسيسها في غاياتها ومخططاتها في إقامة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين؛

ب) ما يعني أن الحركة الصهيونية لن تلتزم بتنفيذ قرار التقسيم؛

ج) بل ستستخدمه كمقدمة لإقامة كيانها الاستيطاني في فلسطين ومنحه “الشرعية” الدولية؛

د) كما كانت القوى العظمى تدرك أن ميزان القوى كان يميل لصالح الصهاينة من حيث قدراتهم العسكرية والمادية والدعم الإمبريالي، مقابل الشعب الفلسطيني الأعزل والجيوش العربية الهزيلة.[3]

ه) بعبارة أخرى، إن إقامة “دولة يهودية” ممكنة ضمن ما نص عليه قرار التقسيم، بل إن ميزان القوى القائم يوفر التفوق العسكري الصهيوني – الإمبريالي، وهو ما حصل فعلاً حيث احتل الصهاينة 78% من أرض فلسطين وشردوا ما يقارب 800 ألف فلسطيني عام 1948، ليكملوا احتلال ما تبقى من فلسطين في حزيران 1967، إضافة إلى احتلال الأراضي العربية في سورية ومصر.

و) وكما كان متوقعاً، تجلى الاستثمار الصهيوني لهذا القرار في إقامة كيانها فوراً ودون تلكأ و”إعلان تأسيس دولة إسرائيل”، ولعل أصدق ما يدلل على هذا هو ما جاء فيما يسميه الصهاينة “وثيقة الاستقلال”:

“وفي اليوم التاسع والعشرين من شهر تشرين الثاني عام ‎1947 اتخذت الجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة قرارا ينص على إقامة دولة يهودية في أرض إسرائيل وطالبت الجمعية العمومية للأمم المتحدة أهالي أرض إسرائيل باتخاذ جميع الإجراءات اللازمة لتنفيذ هذا القرار بأنفسهم.
إن اعتراف الأمم المتحدة بحق الشعب اليهودي في إقامة دولته غير قابل للإلغاء. إنه لمن الحق الطبيعي للأمة اليهودية في أن تكون أمة مستقلة في دولتها ذات السيادة مثلها في ذلك مثل سائر أمم العالم.”[4]

ز) من هنا يجوز لنا القول دون مغالاة إنه كان ينبغي على الاتحاد السوفييتي أن يدرك ويتوقع ما أتينا عليه أعلاه من تداعيات كارثية لا نزال نعيش آثارها حتى يومنا هذا.

كان قرار التقسيم في الجوهر مقدمةً وتمهيداً لإقامة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، كما كان موقف الاتحاد السوفييتي الداعم لهذا القرار والقبول به مقدمةً للاعتراف بهذا الكيان. وقد مَنحَ هذا القرار والدعم السوفييتي له “دولة إسرائيل” اعترافاً قانونياً ونفوذاً سياسياً ومعنوياً في وقتٍ كانت فيه بأمس الحاجة إليه، وذلك على بالرغم من عدم تنفيذ الشق الثاني من ذلك القرار الذي ينص على قيام “دولة عربية” إلى جانب “دولة يهودية”، ما يشكّل خروجاً عن المبادئ التي كان السوفييت ينادون بها منذ الثورة البلشفية عام 1917. وقد شكّل الموقف السوفييتي في الاعتراف بالكيان الصهيوني سابقة تبعتها احدى عشر دولة خلال شهر واحد بينها ست دول من الكتلة الاشتراكية في أوروبا الشرقية.

وعلى الرغم من المآسي التي خلّفتها نكبة فلسطين وجرائم العصابات الصهيونية في احتلال فلسطين والتنكيل بشعبها وإبادة المئات من مدنها وقراها، فإن الوقائع تؤكد أن الاتحاد السوفييتي ظلّ، حتى نهاية العام 1948، أيد المحاولات الصهيونية في الأمم المتحدة لانتزاع الشرعية الدولية للكيان الصهيوني. كما تدلّ عشرات الوثائق على التعاون وتنسيق المواقف بين المندوبين “الإسرائيليين” والسوفييت في هذه المساعي.[5] وبحلول أواخر أربعينيات وبدايات خمسينيات القرن الماضي، كان الاتحاد السوفييتي ومنظومة الدول الاشتراكية وأغلبية الأحزاب الشيوعية العربية والعالمية قد اصطفوا وراء دعم الكيان الصهيوني في مشروعه الاستيطاني في فلسطين.

….https://kanaanonline.org/2022/10/27/%d9%85%d9%84%d8%a7%d8%ad%d8%b8%d8%a9-%d9%85%d9%86-%d9%83%d9%86%d8%b9%d8%a7%d9%86-3/


[1] كثيرة هي الصفحات المضيئة في تاريخنا والتي تغيب عن وعي شعوبنا، ومنها تجربة القرامطة التي امتدت دولتها من سنة 899 حتى 1077 م، وتُعتبر من أوائل الثورات الاشتراكية في التاريخ البشري التي حاولت نشر الأفكار الاشتراكية وبناء المجتمع على أسس اجتماعية واقتصادية اشتراكية.

[2]  للاطلاع على النص الكامل لقرار تقسيم فلسطين، راجع:

https://www.palestine-studies.org/ar/node/1650784

الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية | قرار رقم 181 (الدورة 2‏) بتاريخ 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1947 (palquest.org)

[3] كانت عصابة الهاغانا، نواة الجيش الصهيوني، والوكالة اليهودية يملكون قوة عسكرية كبيرة من بينها جيش الهاغانا المنظم المكون من 67 ألفاً، مقابل الشعب الفلسطيني الأعزل و22 ألفاً من جنود الدول العربية السبع التي دخلت فلسطين في حرب عام 1948.

[4]  راجع موقع الكنيست الصهيوني

https://m.knesset.gov.il/ar/about/pages/declaration.aspx

 [5] راجع مقال أنطوان شلحت: “ستالين والدولة اليهودية [قراءة في كشوف جديدة]”.الكاتبmasadarbidنُشرت فيالتصنيفاتالنشرة الإلكترونية

الجزء الثاني

الموقف السوفييتي في سياقه التاريخي

لقد انخرط اليهود (أو غالبيتهم) في بلدان أوروبا الغربية في الأعمال التجارية والمالية، وبالتالي ارتبط النفوذ اليهودي والصهيوني بتطور النظام الرأسمالي وخدمة مصالحه. أمّا أوضاع اليهود في روسيا وأوروبا الشرقية، فكانت مغايرة لأوضاعهم في أوروبا الغربية لسببين رئيسيين:

اولهما، أنه يهود أوروبا الشرقية شكّلوا كتلة بشرية كبيرة تجمعها في العديد من تجمعاتها عوامل ثقافية مشتركة مثل الدين واللغة اليديشية.

وثانيهما، وهو الأهم، أن قطاعات كبيرة منهم كانت جزءً من البروليتاريا خاصة بعد الثورة البلشفية (1917) وانتهاج السياسات الاجتماعية والاقتصادية الاشتراكية.[1]

تتفاوت احصائيات تعداد اليهود في روسيا قبل عام 1914، وتتناقض في بعض الأحيان، وتبلغ بعض التقديرات إلى أنهم شكلوا ما يقارب خمسة ملايين، في حين تقدّر بعض المصادر اليهودية/الصهيونية عدد السكان اليهود في روسيا السوفييتية ب 200 ألف عام 1919 من أصل 95 مليون مجمل سكان الاتحاد السوفييتي في ذلك العام. وحين وصل هتلر إلى السلطة في ألمانيا في عام 1933، بلغ عدد اليهود في الجزء الأوروبي من الاتحاد السوفييتي مليونين ونصف، وارتفع عام 1939 3 مليون.

أمّا بعد الحرب العالمية الثانية ومذابح النازية وعمليات الهجرة الواسعة من بولندا والتغييرات في تركيبة الاتحاد السوفييتي، فقد ازداد عددهم وأصبح الاتحاد السوفييتي يضم أكبر طائفة يهودية في أوروبا بلغ تعدادها مليوني نسمة.[2]

يعود تأثير اليهود الروس في الحركة الصهيونية وسياساتها منذ نشأتها. وقد تجسد ذلك مبكراً في مشاركة اليهود الروس في المؤتمر الصهيوني الأول (التأسيسي) عام 1987، حيث شكلوا ثلث المندوبين في ذلك المؤتمر (66 مندوباً من أصل 197).[3] وبعد فترة وجيزة من تأسيس الحركة الصهيونية، نشب خلاف بين الصهاينة الروس (ومنهم صهاينة الجزء الروسي من بولندا) والمنظمة الصهيونية، حيث طالب اليهود الروس “بالقيام بمشاريع استيطانية في فلسطين وتنظيم برامج ثقافية تمهيداً لتوطين اليهود في فلسطين”.[4]

بفضل هذه العوامل، وجدت الصهيونية في روسيا القيصرية، ولاحقاً في الاتحاد السوفييتي، تربة خصبة لعملها بين اليهود الروس، وأصبحت روسيا بعد تأسيس الحركة الصهيونية، مسرحاً كبيراً للأنشطة الصهيونية حيث بلغ عدد فروع الحركة الصهيونية الروسية عام 1903، 572 فرعاً وجمعية. وبهذا شكّل يهود روسيا الكتلة البشرية الأكبر في المنظمة الصهيونية.

وكذلك كان حضور اليهود الروس كبيراً في مؤسسات وقيادات الحزب الشيوعي السوفييتي، ولعبوا دوراً هاماً في الأوساط الإعلامية والثقافية والمراكز الأكاديمية والبحثية، فكان نفوذهم كبيراً مقارنة بالجماعات الإثنية أو القومية الأخرى في النسيج القومي السوفييتي.

يذهب بعضنا إلى القول بإن النفوذ اليهودي/الصهيوني هو ما يقف وراء الدعم السوفييتي لقرار تقسيم فلسطين ولاحقاً الاعتراف بالكيان الصهيوني. ولا شك أنه كان للنفوذ اليهودي تأثيراً كبيراً في صناعة سياسة الحزب والدولة السوفييتيتيْن، ولكن ينبغي فهم هذا النفوذ دون مغالاة، حيث تبين دراسة موقف الاتحاد السوفييتي من اليهود في روسيا والعالم، ومن الدولة الصهيونية بعد قيامها عام 1948، أن المصالح الإستراتيجية للدولة السوفييتية كانت دائماً العنصر الأساسي في تحديد موقفها.

وهنا، يجدر بنا أن نتوقف عند هذا النهج في استقراء الوقائع التاريخية والسياسية، وما يتضمنه من تعميم بعض المعطيات، وأن نلحظ أنه كثيراً ما يوصلنا مثل هذا النهج إلى استنتاجات خاطئة أو مبالغ فيها، ناهيك عن أنه نهج اختزالي بمعنى أنه يأخذ عنصراً أو عدة عناصر موجودة حقاً في الواقع، ولكنه يكرسها ويعممها من أجل الوصول استنتاجات معينة. فعلى سبيل المثال، صحيح أن أعضاء بارزين في الحزب الشيوعي السوفييتي وقياداته (مثل ليو ترو تسكي وغيره) كانوا يهوداً، ولكن هذا لا يجب أن يقودنا إلى الاستنتاج بأن هذه العناصر تتحكم بالقرار السوفييتي وأن النفوذ اليهودي يحدد السياسة السوفييتية دون اعتبار لعناصر وعوامل أخرى.

ا) قبل الثورة البلشفية

كان موقف كل من لينين وستالين من الصهيونية موقفاً مبدئياً معادياً، وقاما بتعرية الصهيونية وكشف خطرها على الحركة الثورية في روسيا خاصة، وبين اليهود في كل اماكن تواجدهم. ووصف الحزب الشيوعي السوفييتي الصهيونية بأنها شوفينية مسلحة، وعنصرية، ومناهضة للشيوعية.

في عام 1903 وفي سجال مع المدافعين عن الاستقلال الثقافي الذاتي من البوند[5]،  أكدّ لينين على[6]:

اليهود لا يشكلون أمة

إذن، عارض لينين فكرة القومية اليهودية ورأى أن حل المشكلة اليهودية في الاتحاد السوفييتي يكمن في اندماج الطبقة العاملة من اليهود اندماجاً كاملاً في الطبقة العاملة الروسية، وانخراطهم في النضال الثوري لهذه الطبقة، ما يعني أن يذوب اليهود في المجتمع السوفييتي الاشتراكي الناشئ: فالخاص (يهود شرق أوروبا) لا بد أن يذوب في العام (المجتمع الاشتراكي الجديد). وفي هذا السياق، اختلف لينين مع حزب البوند الذي كان يطالب بقدر من الاستقلال الثقافي لليهود يتناسب مع هويتهم وخصوصياتهم الثقافية سواءً بغيرهم من الأقليات والجماعات.

اما ستالين فقد نفى في كتابه “الماركسية والمسألة القومية” الصادر عام 1913 أن اليهود يشكلون قومية، وأكد على أن ما يجمع يهود العالم هو معتقدهم الديني، مثلهم مثل كافة المؤمنين بأية ديانة اخرى في المجتمعات والشعوب المختلفة، وأنكر ادعاء اليهود أن الله منحهم أرض “الميعاد”، واعتبر هذا الادعاء هراءً مضحكاً لا ينطلي إلا على الاغبياء.[7]

كما عارض تر وتسكي فكرة القومية اليهودية والصهيونية ومفهوم “الأقلية اليهودية” ومطالب حزب البوند. وكان يرى “أن حل المسألة اليهودية لا يكون عن طريق تأسيس دولة يهودية، وإنما في إعادة تركيب المجتمع تركيباً أممياً متماسكاً”.[8]

بيروبيجان: تجربة الحكم الذاتي لليهود السوفييت

ج) فترة الحرب العالمية الثانية وما بعدها

البراغماتية في ظل التغييرات الإستراتيجية

ظلّ الموقف السوفييتي، خلال تلك الحقبة، على حاله: مناهضاً للصهيونية ومشروعها الاستيطاني في إقامة دولة يهودية في فلسطين، معتبراً أن الصهيونية أداة لـ “الإمبريالية العنصرية”، ورأى الحزب الشيوعي “إن المواقف الرئيسية للصهيونية الحديثة هي الشوفينية المتشددة والعنصرية ومعاداة الشيوعية ومعاداة السوفييت”.

هكذا إذن، كان الموقف السوفييتي الرسمي. إلاّ أنه في مجال السياسة الخارجية السوفيتية آنذاك، كان للبراغماتية الغلبة على الأيديولوجيا. فعلى خلاف الموقف الرسمي، كان الموقف العملي مختلفاً وبراغماتياً، بمعنى أنه بدون أن يغير الاتحاد السوفييتي موقفه الرسمي المعادي للصهيونية، أخذ بين عامي 1944 و1948 يتبنى وينفذ خطوات عملية داعمة للصهيونية ومشروعها الاستيطاني في فلسطين، وذلك انطلاقاً من مصالح إستراتيجية سوفييتية، بالإضافة إلى توهم بأن الدولة اليهودية الناشئة قد تكون اشتراكية وستسهم في تقليص النفوذ البريطاني في المشرق العربي.

يُجمع دارسو تلك الحقبة من التاريخ السوفييتي، إلى أن تغييراً جوهرياً حدث في السياسة والإستراتيجية السوفييتية مع نهاية الحرب العالمية الثانية:

أ) تأييد فكرة تقسيم فلسطين إلى دولتين (عربية ويهودية)؛

ب) اعتبار قضية فلسطين “مسالة داخلية” كنزاع بين العرب واليهود “كشعبين” في فلسطين.

الموقف السوفييتي بعد قيام الكيان الصهيوني

لا نتناول هنا سياسة الاتحاد السوفييتي تجاه القضية الفلسطينية بعد قيام الكيان الصهيوني عام 1948، بل نود الإشارة باقتضاب إلى المراحل التالية استكمالاً للبحث.

خلاصة

لقد عارض السوفييت، منذ الثورة البلشفية وخلال فترة لينين وستالين، استقلال اليهود وإقامة وطن لهم في إطار الاتحاد السوفييتي. ولكن هذا الموقف تغير بعد نهاية الحرب العالمية الثانية إلى موقف مساندٍ للحركة الصهيونية وقرار تقسيم فلسطين ولاحقاً الاعتراف بالكيان الصهيوني. والمفارقة هنا -أن هذا الموقف الجديد لم يستند إلى ركائز أيديولوجية أو أخلاقية، أو إلى الموقف السوفييتي من اليهود كأقلية في الاتحاد السوفييتي، بل كان تعبيراً عن مصالح الدولة السوفييتية، وصراعها مع المعسكر الرأسمالي – الإمبريالي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وسعيها إلى تحقيق مكاسب جيو-إستراتيجية وإقامة منطقة نفوذ له على شواطئ البحر الأبيض المتوسط.

_________

….https://kanaanonline.org/2022/10/27/%d9%85%d9%84%d8%a7%d8%ad%d8%b8%d8%a9-%d9%85%d9%86-%d9%83%d9%86%d8%b9%d8%a7%d9%86-3/


[1] للمزيد، انظر “تاريخ الصهيونية في روسيا” في “موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية” عبد الوهاب المسيري، المجلد السادس، ص 109.

[2] راجع المواقع اليهودية/الصهيونية الإلكترونيةHillel.org and Holocaust Encyclopedia

[3] عبد الوهاب المسيري، المرجع السابق، “تاريخ الصهيونية في روسيا”، المجلد السادس، ص 110.

[4] المرجع السابق ص 109.

[5] حزب البوند Bund (الجبهة اليهودية العامة General Jewish Labor Bund) حزب اشتراكي يهودي علماني تشكل في الإمبراطورية الروسية عام 1897، ونشط بين عامي 1897 و1920، وكان له فروع في ليتوانيا وبولندا. في عام 1917، انفصل الجزء البولندي من البوند، وفي عام 1921 تم حل فصيل الأغلبية في البوند الروسي ودمجه في الحزب الشيوعي السوفييتي. وكان لينين قد رفض أن يكون البوند بين الاتحادات العمالية في السلطة السوفياتية، كما رفض الكومنترن (باقتراح من لينين) قبول عضوية “الحزب الشيوعي اليهودي الروسي” في عضويته الى جانب الاحزاب الشيوعية العالمية، وأصر لينين على حل هذا الحزب، واشترط على مَنْ يرغب من اعضائه الانضمام الى صفوف الحزب البلشفي أن يكون الانتساب فردياً.

[6]  فلاديمير لينين، “الأعمال الكاملة”، دار التقدم – موسكو 1971، المجلد السابع، ص. 98 إلى 100، ورد في مقال دومينيك فيدال: “ستالين: بين دعم إسرائيل وقمع اليهود”.

[7] أنظر مقال عيسى دباح: “ثورة اكتوبر الاشتراكية وحركات التحرر الوطني”.

[8] عبد الوهاب المسيري، “موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية”، المجلد الثالث، ص 172.

[9]  في عام 1920 دعا لينين لعقد المؤتمر الاول لشعوب الشرق بهدف دعم حركات التحرر الوطني والاجتماعي في هذه البلدان. وقد اتخذ هذا المؤتمر شعاره من كلمات ماركس وإنجلز “ان شعباً يضطهد شعوباً اخرى لا يمكن ان يكون حراً”.   

[10] راجع “الموسوعة الفلسطينية”،

الاتحاد السوفييتي (والقضية الفلسطينية)

https://www.palestinapedia.net/%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%aa%d8%ad%d8%a7%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%88%d9%81%d9%8a%d9%8a%d8%aa%d9%8a-%d9%88%d8%a7%d9%84%d9%82%d8%b6%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%81%d9%84%d8%b3%d8%b7%d9%8a%d9%86%d9%8a/embed/#?secret=VknCIhOFNh#?secret=7C0vbhNgFa

[11] أنظر مقال عيسى دباح سابق الذكر.

[12] انظر Richard Crossman, Palestine Mission, p. 130

[13] عبد الوهاب المسيري، “موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية”، المجلد الثالث، فقرة “البلاشفة والصهيونية”، ص 173.

[14] مهدي عبد الهادي، المسألة الفلسطينية ومشاريع الحلول السياسية! (1934-1974)، ص 113.الكاتب

الجزء الثالث

على الرغم من موقفه المعادي للصهيونية منذ الثورة البلشفية وما بعدها، قدم الاتحاد السوفييتي، في الفترة بين عام 1945- 1947، دعماً كبيراً للحركة الصهيونية ومشروعها في تأسيس الكيان الصهيوني الاستيطاني على أرض فلسطين، وقام بخطوات عملية لخدمة الأهداف الصهيونية. وقد اتخذ هذا الدعم اتخذ أشكالاً ومستويات متعددة، بالإضافة إلى وقوف الاتحاد السوفييتي إلى جانب قرار تقسيم فلسطين.

الموقف السوفييتي من مشروع برنادوت

في يونيو 1948، بعد الإعلان عن قيام الكيان الصهيوني في 15 مايو 1948، أيد السوفييت الاعتراض الصهيوني على خطة التسوية (مشروع برنادوت) التي دعا إليها وسيط الأمم المتحدة الكونت فولك برنادوت (الذي اغتالته عصابة شتيرن الصهيونية يوم 17/9/1948). وقد تضمنت تلك الخطة بين بنودها العديدة نقل النقب الفلسطيني إلى شرق الأردن.

وعندما اعترض الكيان الصهيوني على هذه الخطة، سانده الاتحاد السوفييتي.

ورداً على اقتراح برنادوت، نصح وزير الخارجية فياتشيسلاف م. مولوتوف Vyacheslav M. Molotov  القيادة السوفييتية بأن هذا من شأنه أن يضع أربعة أخماس “الأراضي الإسرائيلية” في أيدي شرق الأردن – “أي تحت السيطرة البريطانية”، ولذا ويجب رفضه.

وحول هذه المسألة كتب مولوتوف “الرفيق ستالين يوافق”.[1]  

الموقف السوفييتي من قرار الأمم المتحدة رقم 194

(حق العودة للاجئين الفلسطينيين)

صوت المندوب السوفييتي في الأمم المتحدة ضد قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة رقم 194 (بتاريخ 11 ديسمبر 1948) الذي يقر “حق العودة للاجئين الفلسطينيين”. كما صوت عدد من الدول العربية ضده أيضاً مثل مصر والعراق ولبنان وسوريا واليمن.[2]

دعم الهجرة الصهيونية إلى فلسطين

الدعم العسكري

قدّم الاتحاد السوفييتي الدعم العسكري للمنظمات الصهيونية الإرهابية في فلسطين خلال فترة الانتداب البريطاني انطلاقاً من الادعاء بأنهم “يحاربون” الاستعمار البريطاني ويشكلون “نواة اشتراكية” في المشرق العربي.

في 5 حزيران 1948 كتب إيفان باكولين، مدير دائرة الشرق الأوسط في وزارة الخارجية السوفييتية آنذاك، يقول: “بالنسبة لبيان الرفيق غروميكو بشأن طلبات مندوب دولة إسرائيل تقديم مساعدة إلى إسرائيل، أرى أن بالإمكان إحاطة التشيكوسلوفاكيين واليوغسلافيين علمًا، لكن في السرّ، برغبتنا في التعاون مع مندوبي دولة إسرائيل بخصوص امتلاك وإرسال مدافع وطائرات إلى فلسطين، وذلك آخذين بالاعتبار أنه على الرغم من قرار مجلس الأمن القاضي بحظر تصدير الأسلحة إلى الدول العربية فإن لدى هذه الدول كل الإمكانيات لشراء أسلحة بالكميات المطلوبة لها من المخازن الإنجليزية في شرق الأردن والعراق ومصر.”[5]

باختصار، قدّم الاتحاد السوفييتي للمستوطنين الصهاينة في فلسطين خلال فترة حكم ستالين الدعم بأكثر ما يحتاجون إليه ب “الرجال والسلاح”، ويقدر بعضهم أن القوات اليهودية حصلت على ما يقرب 22 مليون دولار من الأسلحة.

وقد اعترف كثيرون من القادة الصهاينة بدور الأسلحة التي قدمها الاتحاد السوفييتي وبلدان الكتلة الاشتراكية، والتي بدونها لم يكن بإمكان الصهاينة تحقيق النصر سواء على الصعيد الدبلوماسي أو عسكري. وعلى سبيل المثال، صرّح بن غوريون بعد عقدين من الزمن: “لقد أنقذوا البلد، ولا أشك في ذلك” و”… أشك كثيراً في أننا كنا سنتمكن من البقاء من دونها خلال الأشهر الأولى”. وبالمثل، كتبت غولدا مائير في مذكراتها أنه بدون الأسلحة من الكتلة الشرقية، “لا أعرف ما إذا كان بإمكاننا الصمود حتى تغير المد، كما حدث بحلول يونيو 1948”.[6]

بناءً على اقتراح قدّمه ميكونوس، سكرتير الحزب الشيوعي الإسرائيلي، وتمت المصادقة عليه في اجتماع بين بن غوريون والمسؤول السوفييتي مالينكوف، وصلت كتيبة من 2000 متطوع في ديسمبر/كانون الأول 1948 من براغ إلى إسرائيل وضم عناصرها إلى في جيش الدفاع الإسرائيلي.[7]


[1] راجع مقال: Who Saved Israel in 1947? By Martin Kramer   

[2]  موقع الأمم المتحدة www.un.org

[3]  الوكالة اليهودية، وكان اسمها في فترة الاحتلال البريطاني لفلسطين “الوكالة اليهودية لأرض إسرائيل”. وكان من بين أهدافها: دعم ومساعدة لليهود المهاجرين إلى فلسطين، شراء الأراضي العربية في فلسطين وتحويلها إلى ملكية يهودية، إقامة استيطان زراعي اساسه العمل العبري، والعمل من أجل بعث اللغة والأدب العبريين.

[4] خطة دالت أو الخطة «د» هي خطة وضعتها منظمة الهاجاناه في فلسطين بين خريف عام 1947 وربيع 1948. وقد ثار الكثير من الجدل حول أهدافها، حيث يدّعي بعض المؤرخين أنها كانت “خطة دفاعية” من أجل ضمان تأسيس الكيان الصهيوني. أمّا بحسب المصادر الفلسطينية فهي خطة هدفت إلى السيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي الفلسطينية وطرد أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين وفرض سياسة الأمر الواقع على كافة الأطراف.

[5]  راجع مقال أنطوان شلحت: “ستالين والدولة اليهودية [قراءة في كشوف جديدة]”.

[6] المرجع السابق، Martin Kramer: “Who Saved Israel in 1947”  

[7] دومينيك فيدال: “ستالين: بين دعم إسرائيل وقمع اليهود”.

الجزء الرابع

كيف بَرّرَ الاتحاد السوفييتي موقفه من تقسيم فلسطين والاعتراف بالكيان الصهيوني ككيان استعماري استيطاني على حساب شعبٍ آخر؟

في الإجابة على هذا السؤال، لا بدّ من الإشارة إلى تشابك عوامل ومصالح عديدة في صياغة هذا الموقف، ومن بينها عوامل براغماتية سياسية وإستراتيجية وأيديولوجية ودوغمائية وأخرى سوفييتية داخلية. وسوف نقسم النقاش فيها إلى المحاور التالية:

أولاً: السوفييت وحق “الشعب اليهودي” في فلسطين

ثانياً: عوامل إستراتيجية والمصالح السوفييتية

ثالثاً: عوامل سوفييتية داخلية

رابعاً: نظرة السوفييت إلى العرب والفلسطينيين

في عرضه للرؤية السوفييتية في حل الصراع العربي – الصهيوني في فلسطين، تطرق أندريه غروميكو إلى عدة مشاريع مقترحة لتنظيم مستقبل فلسطين وحل المشكلة اليهودية، ومن بين هذه المشاريع:

1)  تكوين (دولة واحدة) عربية يهودية، يتمتع فيها العرب واليهود بحقوق متساوية.

2) (تقسيم فلسطين) إلى دولة عربية وأخرى يهودية.

3) إنشاء (دولة عربية) في فلسطين دون اعتبار لحقوق السكان اليهود.

4) إنشاء دولة يهودية في فلسطين دون اعتبار لحقوق العرب.

مضيفاً أن الموقف السوفييتي يرى أن الحل العادل لابد أن ينبني على الاعتراف بالمصالح المشتركة للشعبين في فلسطين. “وهكذا خرج الوفد السوفييتي بنتيجة هامة، وهي أنه لا يمكن حماية مصالح الشعبين العربي واليهودي إلا بتكوين (دولة عربية يهودية ديمقراطية مستقلة) يكون لكل من الشعبين فيها حقوق متساوية.” وأردف غروميكو قائلاً:” ومن المعروف أن هذا الحل مرغوب فيه داخل فلسطين نفسها”. وصولاً إلى قوله:” وأنا أكرر أن هذا الحل لا يجب الأخذ به الا إذا ثبت أن العلاقات بين العرب واليهود تبلغ من السوء حداً يمتنع فيه التعاون السلمي بينهما والذي لا يرجى منه أي إصلاح.”[1]

(1)

فلسطين: “شعبان متساويان”

صرّح أندريه غروميكو، ممثل الاتحاد السوفييتي في الأمم المتحدة آنذاك، في خطابه بتاريخ 14 أيار 1947 من على منصة الجمعية العمومية للأمم المتحدة ب:”… إنّ واقع أن سكان فلسطين يتألفون من شعبين، يهودي وعربي، هو واقع غير قابل للنقض، ولكل شعب منهما جذور تاريخية في فلسطين”. وهو موقف يتناقض مع الخطّ الأيديولوجي والسياسي، الذي تميز به الاتحاد السوفييتي والحركة الشيوعية في كفاحهما ضد الحركة الصهيونية على مدى العقود التي تلت ثورة اكتوبر 1917.[2]

(2)

دولة ثنائية (يهودية  عربية) أم تقسيم فلسطين؟

رأى الاتحاد السوفييتي أن الحل الأفضل للصراع العربي – الصهيوني المحتدم في فلسطين هو قيام “دولة يهودية – عربية واحدة بحقوق متساوية لليهود والعرب”، وإذا تعذر تحقيق ذلك، فلا مفرّ من تقسيم فلسطين إلى دولتين مستقلتين: يهودية وعربية.[3] وقد عبّر أندريه غروميكو في خطابه يوم 14 أيار 1947 عن هذا الموقف بالكلمات التالية: “إنه لا يمكن حماية مصالح الشعبين إلاّ في إقامة دولة عربية – يهودية أو تقسيم البلاد إلى دولتين عربية ويهودية”.

في ذلك الخطاب ذكر غروميكو إمكانية إقامة دولة مشتركة، غير أن مولوتوف وزير الخارجية السوفييتي وجّه في 30 أيلول 1947، تعليمات إلى نائبه، أندريه فيشينسكي، الذي كان موجوداً في نيويورك تدعوه إلى “عدم معارضة موقف الأغلبية بشأن تقسيم فلسطين”. وفي اليوم نفسه أرسل مولوتوف إلى فيشينسكي، وفق ما ورد في تلك الوثائق، رسالة جاء فيها ما يلي:

“عندما وجهنا غروميكو للحديث على إمكان إقامة دولة ثنائية القومية في فلسطين، باعتبار ذلك أفضلية أولى، فقد كان هذا الأمر راجعاً إلى عوامل تكتيكية. لم نرغب في أن نأخذ على عاتقنا المبادرة إلى إقامة دولة يهودية. بيد أن موقفنا الحقيقي يعبر أكثر عن الإمكانية الثانية بشأن إقامة دولة يهودية مستقلة… ينبغي عليكم [المقصود البعثة السوفييتية في الأمم المتحدة] أن تؤيدوا موقف الأغلبية الذي يعتبر الأكثر ملاءمة لموقفنا الأساس في هذه المسألة”. وعلى ضوء هذه التعليمات تمت صياغة خطاب غروميكو في 26 تشرين الثاني 1947.[4]

وعندما أصبح وزيراً للخارجية السوفييتية لاحقاً، عاد غروميكو ليؤكد تأييد بلاده لقرار تقسيم فلسطين من منطلق أنه يوجد في فلسطين شعبان، أحدهما عربي والآخر يهودي، ولكل منهما جذور تاريخية، وأنه “لا حل لقضية فلسطين إلاّ بالاستقلال والديمقراطية التي تحفظ حقوق السكان الفلسطينيين على اساس العدل والمساواة، أما إذا لم يكن هناك طرق إلى تفاهم العرب واليهود على هذا الحل فهو أمر مؤسف، وعندئذ لن يكون من حل إلاّ التقسيم”.

(3)

تجاهل الموقف العربي من قرار التقسيم

في سبتمبر 1947، دعم الاتحاد السوفييتي التوصية التي رفعتها لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين UNSCOP   والتي تدعو إلى تقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية. وفي 26 نوفمبر 1947، خلال المناقشة العامة التي سبقت التصويت على قرار التقسيم، طرح غروميكو الدعم السوفييتي “لحق الشعب اليهودي” و”ارتباطه التاريخي” ارتباطًا وثيقًا بفلسطين لفترة طويلة من التاريخ. أمّا عن الحق العربي، فقد تجاهل الاتحاد السوفييتي المعارضة العربية لتقسيم فلسطين باعتبار أن موقف الدول العربية يشكل “ظلماً تاريخياً” و”غير مقبول”.

(4)

أكذوبة “حرب الاستقلال” اليهودية

ابتلع كثيرون من القادة السوفييت، سواء بتأثير من الحركة الصهيونية أو لحسابات ومصالح أخرى، أكذوبة أن الصهاينة يخوضون في فلسطين “حرب استقلال” ضد بريطانيا كما يسمونها، وأنه يتوجب على الاتحاد السوفييتي دعمهم في هذه الحرب، كون هذا الدعم أحد ركائز ومبادئ السياسة الخارجية السوفييتية.

(5)

مصالح اليهود في فلسطين وفي العالم

رأى غروميكو أن قضية فلسطين لا تمس مصالح اليهود في فلسطين وحدها، وإنما تمس مصالح اليهود في شتى أنحاء العالم. ما يعني، وما يمكن استشفافه من هذه التصريحات، بأن اليهود في العالم يشكلون “شعباً” واحداً، وهو ما يتناقض مع رأي لينين والبلاشفة منذ بدايات القرن العشرين بأن إطلاق صفة “الأمة” على اليهود يمثل موقفاً رجعياً.

(6)

استثمار المحرقة (الهولوكوست) النازية

منذ المحرقة النازية ليهود أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية، نجحت الحركة الصهيونية، ولا تزال حتى يومنا هذا، في استثمار هذه القضية سياسياً وإعلامياً وإنسانياً من أجل تبرير “حق اليهود” في إقامة دولتهم الاستيطانية في فلسطين: ترسيخ عقدة الذنب في الضمير الغربي (وبعض الضمير العالمي أيضاً) من خلال حملات دعاية كبرى واختراق الإعلام والوعي العام.

وفي سياق الأوضاع السياسية التي سادت العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وخاصة الغرب الأوروبي والأميركي، يرى بعض المحللين أن هذه المحرقة كانت أحد العوامل التي دفعت السوفييت إلى تأييد قرار تقسيم فلسطين وإقامة دولة يهودية فيها والاعتراف بها لاحقاً. ففي تاريخ 14 أيار 1947، أشار غروميكو في خطابه سابق الذكر إلى:

-️ إن الشعب اليهودي عانى خلال الحرب من “حزن ومعاناة لا توصف. من الصعب التعبير عنها في الإحصاءات الجافة “.

-️ وإن اليهود تعرضوا لـ “إبادة جسدية شبه كاملة”.

-️ وإن “مئات الآلاف من اليهود يتجولون في بلدان مختلفة من أوروبا”، وكثير منهم في مخيمات النازحين حيث “ما زالوا يعانون من الحرمان الشديد. . .. لقد حان الوقت لمساعدة هؤلاء الناس، لا بالكلام، بل بالأفعال. . .. هذا واجب للأمم المتحدة”؛

خلاصة

يُستخلص مما جاء أعلاه:

أ) أن نستنتج أن السياسة السوفييتية كانت ترى بأن تقسيم فلسطين هو الحل المنطقي إذا لم يستطع الشعبان العربي “واليهودي” في فلسطين، من وجهة النظر السوفييتية، العيش معاً، وبالتالي لم يبقَ إلاّ خيار التقسيم.

ب) اعتراف السوفييت بحق اليهود “بأن يكون لهم وطن ودولة في فلسطين” على نحو مماثل ومساوٍ لحق عرب فلسطين وسكانها الأصليين بان يكون لهم ايضاً دولة مستقلة خاصة بهم.

ج) وهذا يعني أن السوفييت وجدوا في تقسيم فلسطين “الحل الأمثل والأكثر عدالة” بالنسبة للعرب واليهود في فلسطين. وهو ما أكده غروميكو في قول مفاده إن السوفييت يعتقدون أن القرار الذي يمكن ان يتخذ حول تقسيم فلسطين يتطابق مع المصالح القومية الأساسية لكلٍ من اليهود والعرب، وان الاتحاد السوفييتي لا يمكنه إلاّ أن يؤيد طموحات أي دولة وأي شعب مهما كان وزنه صغيراً في الشؤون الدولية، وذلك في نضاله ضد التبعية الأجنبية وبقايا الاضطهاد الاستعماري.

ثانياً: العوامل الإستراتيجية

يتمتع المشرق العربي بأهمية إستراتيجية بالغة. أما فلسطين، فهي القلب من هذه المنطقة، لذا غذّت إطلالتها على البحر الأبيض المتوسط وقناة السويس مطامع القوى العظمى من أجل الاستيلاء عليها كمناطق نفوذ تلبي مصالحها. وعلى ضوء مصالحه، بادر الاتحاد السوفييتي بإرساء أسس سياسته الخارجية التي تضمنت تغيرات في الرؤية الإستراتيجية السوفييتية وتجلت بوضوح في مشرقنا العربي، حيث غَلَبَت مصالح الدولة على الأيديولوجيا، خصوصاً في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية وبدايات الحرب الباردة.

لم يكن موقف الاتحاد السوفييتي وتأييده لقرار تقسيم فلسطين منسجماً مع المبادئ الأممية التي نادى بها (ولا حتى مع ما يُسمى ب “الشرعية الدولة” ومبادئ الأمم المتحدة)، بل كان، كما أسلفنا، مدفوعاً بمصالحه الجيو-إستراتيجية في العالم والمشرق العربي حيث ساد النفوذ البريطاني وشكّل تحدياً كبيراً للاتحاد السوفييتي الذي كان يرى ضرورة تقويض هذا النفوذ من أجل تأمين موطئ قدم له في شرق المتوسط.

وفي هذا الصدد طرح مؤرخون تفسيراً مفاده أن الاتحاد السوفييتي توجه إلى محاربة بريطانيا في مستعمراتها، “والتوهم” بأن إقامة الكيان الصهيوني سيؤول إلى إضعاف السيطرة الغربية، وخصوصاً البريطانية. وهو ما يدل على إخفاق كبير في فهم المشروع الصهيوني الاستيطاني في فلسطين وارتباطه العضوي بالمصالح الإمبريالية في الهيمنة على الوطن العربي. وانطلاقاً من هذا العداء السوفييتي لبريطانيا، توقع بعض المحليين أن تكون السياسة السوفييتية حيال المشروع الصهيوني في فلسطين ودّية، لا من منطلق التعاطف مع الصهاينة أو الكراهية تجاه العرب، ولكن من أجل المصالح الإستراتيجية وتصفية الحسابات مع بريطانيا.

ليس مستبعداً أن يكون الاتحاد السوفييتي قد رتّب حساباته وتوقعاته على ضوء توتر العلاقات مع بريطانيا والصراع بين المعسكرين، الرأسمالي والاشتراكي، وظهور بوادر الحرب الباردة بينهما، ومن هنا يذهب هذا التفسير إلى أن السوفييت توقعوا أن تكون هاتان الدولتان في فلسطين، العربية واليهودية، معاديتين للنفوذ البريطاني في المنطقة:

رأى بعض المحللين أن السوفييت اعتقدوا في تلك الآونة أن بعض أسرار القنبلة النووية كانت في حوزة بعض العلماء اليهود، وبالتالي فإن دعم المشروع الصهيوني والاعتراف بالكيان الصهيوني قد يسهّل الوصول إلى هذه الأسرار، على أساس المقايضة بين ذلك والاعتراف بدولة “إسرائيل”.

كان السوفييت يدركون أن مقومات الدولة الصهيونية المنوي اقامتها في فلسطين وبقاءها يعتمدان إلى درجة كبيرة على استمرار تدفق الهجرة اليهودية إليها، وخصوصاً من مناطق الكثافة السكانية اليهودية في روسيا وبولندا وغيرهما من بلدان أوروبا الشرقية. على هذا الأساس، بدا للسوفييت أنه بالإمكان (1) استثمار هؤلاء اليهود واستقطابهم كقوة ضغط للتأثير على سياسات الدولة اليهودية الحديثة، و(2) وربما استخدامهم أيضاً من أجل تهريب عناصر شيوعية موالية للاتحاد السوفييتي إلى الكيان الصهيوني. وقد لعبت الأحزاب الصهيونية ذات الخطاب والشعارات الاشتراكية، دوراً هاماً في تعزيز التوهم السوفييتي ب “إسرائيل اشتراكية” تكون “نواة للاشتراكية في المنطقة”.

هناك أيضاً رأي يسود بين بعض المحللين مفاده أن مستشاري القيادة السوفييتية نصحوها بأن إقامة دولة يهودية في فلسطين ستُدخل عنصراً من الاضطراب و عدم التوازن في المنطقة، ما سيؤدي إلى “تثوير” الأوضاع الاجتماعية والسياسية، بمعنى أن التناقضات إن احتدمت فسوف تفضي إلى “الاستقطاب الطبقي” وإدخال البلاد في صراع طبقي تتحالف فيه الرجعية الغربية مع الرجعية اليهودية ضد اعدائهم الطبقيين المتمثل في تحالف أعضاء الطبقة العاملة من العرب واليهود. 

في يوليو 1947، وفق لما كتبه مارتين كريمر[5]، أكد السكرتير الثاني للسفارة السوفيتية في واشنطن إبستين أن السوفييت يعرفون جيداً “أن التجارب الاجتماعية [الصهيونية] في الجماعية لا علاقة لها بالتفسير الماركسي للجماعة”. ولكن إبستين أضاف أن اليشوف بدا وكأنه “مجتمع سلمي وديمقراطي وتقدمي … الذي يمكنه أن يمنع المؤامرات المعادية للسوفييت، التي تفقس بسهولة بين الدوائر الرجعية الحاكمة للدول العربية في الوقت الحاضر [6]“. وهذا يؤكد أن القادة الصهاينة كانوا يدركون أن الدعم السوفييتي لتقسيم فلسطين وانشاء دولة يهودية على أرضها – بصرف النظر عن الأيديولوجيا أو عدم قناعتهم بالتفسير الماركسي لظاهرتي الكيبوتس واليشوف – يتماشى مع المصالح السوفيتية.

يذهب كثيرون إلى أن التأثير اليهودي/الصهيوني في الاتحاد السوفييتي كان نافذاً، (ولا يزال كذلك اليوم في روسيا الاتحادية)، ليخلصوا أن قادة الحركة الصهيونية لعبوا دوراً كبيراً في التأثير على صياغة الموقف السوفييتي وإقناع القادة السوفييت بأن إنشاء الكيان الصهيوني هو خطوة هامة في خدمة المصالح السوفييتية، وأنه لا يتعارض لا نظرياً ولا عملياً مع الأيديولوجيا والسياسة السوفييتية. ويؤكد أصحاب هذا الرأي أن التأثير الصهيوني تجلى في العديد من مستويات الدولة السوفييتية والأطر الحزبية العليا. ويفضي هذا الرأي، إلى استنتاج يقول إن كون العديد من القادة الصهاينة من أصول روسية وبولندية، كان من بين العوامل التي شجعت السوفييت على اتخاذ موقفهم من قرار تقسيم فلسطين ودعم الكيان الصهيوني لاحقاً، ومراهنة السوفييت على أن هؤلاء القادة مرشحون مستقبلاً لتبني سياسات مؤيدة للاتحاد السوفييتي.

يذهب بعض المؤرخين إلى أن السوفييت كانوا يعتقدون أن قيام دولة يهودية في فلسطين قد يسهم في حل بعض المشاكل السوفييتية الداخلية المتعلقة بالمسألة اليهودية في بلدهم وبعض الدول الأوروبية، والتي ازدادت حدةً وتفاقماً حين أخذ اليهود الذين شرّدتهم النازية، يعودون بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، إلى أماكن إقامتهم الأصلية في الاتحاد السوفييتي وبولندا ودول أوروبية شرقية أخرى.[7]

حلّت القوى الاستعمارية الأوروبية (بريطانيا وفرنسا خاصةً) محل الاحتلال العثماني لبلدان المشرق العربي عقب الحرب العالمية الأولى، وخضعت فلسطين للاحتلال البريطاني (يسمونه انتداباً ونسميه احتلالاً) لعقود ثلاثة امتدت من عام 1918 إلى أن تمّ انسحاب قواته في 14 أيّار 1948. وبعد الحرب العالمية الثانية تلت فترة بالغة الأثر على مستقبل المشرق العربي وكافة البلاد العربية حيث عاشت المنطقة في خضم تطورات سياسية وإستراتيجية كبيرة، شكّلت تحديات جسمية للدبلوماسيين والساسة العرب. فقد كان هؤلاء الساسة ضعيفي المشاركة والتأثير في التطورات الدولية، وكانوا يفتقرون إلى فهم الواقع الدولي وصياغة إستراتيجية للتعاطي معه، ناهيك عن ارتباط الأنظمة العربية وعمالتها للقوى الاستعمارية الغربية. ويذكر بعض المؤرخين والمحليين أن القادة العرب في تلك الآونة لم يكونوا راغبين في إقامة علاقة مع الوفود السوفييتية والاشتراكية أو التنسيق معها، بل كانوا ينفرون من مندوبي هذه الدول ويتجنبون اللقاء بهم.

على خلاف ذلك، كان قادة الحركة الصهيونية أكثر فهماً وإلماماً بالأوضاع الدولية في تلك المرحلة، وعلى علاقات تواصل مع الدول وخصوصاً القوى العظمى، صانعة القرار. إذ لا يُخفى أن المشروع الصهيوني، كان منذ نشأته كفكرة وتنظيم وبرنامج، مرتبطاً بسياسات ومصالح القوى الإمبريالية، وأن الحركة الصهيونية وضعت إمكاناتها ونفوذها المالي والسياسي في خدمة هذه القوى. ومن هنا جاء المشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين ليلبي هذه المصالح وليكون رأس الحربة الإمبريالية الغربية للهيمنة على الوطن العربي.

من الناحيتين، البراغماتية والإستراتيجية، كان الاتحاد السوفييتي، كما ذكرنا سابقاً، يسعى إلى منفذ إلى مياه البحر المتوسط وموطئ قدم في المشرق العربي. إلاّ أن السوفييت، كما يرى كثيرون، لم يتمكنوا من إقامة جسورٍ أو علاقات وثيقة مع الحكومات العربية ولم يجدوا جدوى من الاستثمار السياسي فيها، بل انحصرت علاقاتهم بالأحزاب الشيوعية العربية والتي كانت في معظم هذه البلدان محظورة ومقموعة. ويُذكر، على سبيل المثال، أن موقف حكومات الدول العربية لم يتعدَ الاستماع إلى خطاب غروميكو دون أن يُقْدم أي مسؤول عربي على دراسته أو مناقشته على أي مستوى، بل كان الاهتمام العربي مركزاً على تحركات بريطانيا والولايات المتحدة وسياستهما حيال المسألة الفلسطينية.[8]

شكّلت نظرة السوفييت إلى الفلسطينيين والعرب (شعوباً ودولاً ومجتمعاتٍ) واحداً من ركائز الموقف السوفييتي في تأييده لقرار التقسيم وإقامة دولة يهودية في فلسطين.

استناداً إلى إيمانهم ب”الحق التاريخي للشعب اليهودي” في فلسطين، رأى السوفييت أن موقف الدول العربية الرافض لقرار تقسيم فلسطين “غير عادل”، وهو ما عبّر عنه غروميكو في خطابه الثاني على المنصة الأمم المتحدة بتاريخ 26 تشرين الثاني 1947، حين وصف موقف الدول العربية بأنه “غبن تاريخي”، مضيفاً أنه “لا يجوز أن نقبل هذه المقاربة [العربية] لأن الشعب اليهودي كان مرتبطًا بفلسطين على مدار فترة تاريخية طويلة… إنّ حلّ مشكلة فلسطين على أساس إقامة دولتين مستقلتين سيكون ذا أهمية تاريخية كبرى، وهو يلائم المطالب القانونية للشعب اليهوديّ الذي لا يزال مئات الآلاف من أبنائه دون مأوى ودون مصدر رزق…””.[10]، [11]

[1] مهدي عبد الهادي، المسألة الفلسطينية ومشاريع الحلول السياسية! (1934-1974)، ص 113-114.

[2] من اللافت للنظر، كما تشير بعض المصادر التاريخية، أن وسائل الإعلام السوفيتية توقفت مؤقتًا بعد وقت قصير من هذا الخطاب، عن نشر معاداة الصهيونية.

[3] تم ذكره في كتاب ألان غريش ودومينيك فيدال “فلسطين 1947: تقسيم مجهض”، دار نشر أندريه فرساي، بروكسل، 2008، ص. 90. راجع مقال “ستالين: بين دعم إسرائيل وقمع اليهود” https://orientxxi.info/magazine/article4706

[4] أنظر مقال أنطوان شلحت السابق الذكر.

[5]  راجع Martin Kramer: “Who Saved Israel in 1947?”

[6] من اللافت أن يتجاهل هذا المسؤول السوفييتي، أو أن يتعامى عمداً، عن حقيقة أن اليشوف أقيم بسرقة واحتلال أرض شعبٍ آخر!

[7] راجع مقال أنطوان شلحت سابق الذكر.

[8] مهدي عبد الهادي، المسألة الفلسطينية ومشاريع الحلول السياسية! (1934-1974)، ص 114-115

[9] أرنولد كرامر: “السياسة السوفيتية بشأن فلسطين. 1947-1948″، مجلة الدراسات الفلسطينية، المجلد الثاني، رقم 2، شتاء 1973، ص 109، ورد في مقال دومينيك فيدال: “ستالين: بين دعم إسرائيل وقمع اليهود”.

[10] أنطوان شلحت، المقال السابق.

[11] UN, General Assembly, Official Records, 1st Special Session, May 1947, pp. 127 -135.الكاتب

الجزء الخامس

حاول كثيرون من المؤرخين والمحللين تفسير التحول السريع في السياسة السوفييتية حيال قيام “دولة يهودية” في فلسطين في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وحاول بعضهم تحديد مسؤولية بعض القادة السوفييت عن إقرار هذه السياسات، وخاصة مسؤولية جوزيف ستالين الذي شغل منصب السكرتير العام للحزب الشيوعي السوفييتي من 1922 حتى 1952، ومنصب رئيس مجلس الدولة السوفييتي من 1941 حتى 1953.

خلال الحرب الباردة وبعدها، وخاصة في الفترة التي تلت انهيار الاتحاد السوفيتي، تمّ نشر ودراسة مئات الوثائق السوفيتية حول مواقف الاتحاد السوفييتي من تقسيم فلسطين والاعتراف بالكيان الصهيوني، وتتضمن هذه الوثائق توصيات سياسية قُدمت إلى ستالين وتعليمات من وزارة الخارجية السوفيتية لدبلوماسييها، لكنها لم تكشف عن تفكير وموقف ستالين نفسه.

ليس خافياً أن هذه الفترة التاريخية كانت حبلى بتغيرات عميقة في السياسة السوفييتية وإرهاصات تبلور نظام عالمي جديد في سياق الحرب الباردة، وتثير العديد من التساؤلات:

يرفض كثيرون من العارفين بالسياسة السوفييتية وشخصية ستالين هذه الفرضية، كما أن الوثائق السوفيتية تشير إلى ضعف هذا الاحتمال: ففي يوليو 1947، أكد السكرتير الأول للسفارة السوفيتية في واشنطن على أنه “لم يُسمح لغروميكو بالإدلاء ببيانه إلا بعد تحليل دقيق وشامل للوضع”، وأن جميع مستشاري السياسة الخارجية السوفييتية تقريباً كانوا يجمعون على أن دعم الدولة اليهودية من شأنه أن يثير “رد فعل غير مواتٍ” في البلدان العربية.[1]

من جانبه، يرى المؤرخ فلاديسلاف زوبوكVladislav Zubok [2] الذي درس حقبة الحرب الباردة، أن هذا التحول الكبير في السياسة السوفييتية الرسمية “لم يكن من الممكن تصوره دون قرار ستالين الشخصي…”، وينسب إلى مولوتوف، الذي كان وزير الخارجية وعضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفييتي آنذاك، قولة في وقتٍ لاحق أنه عندما تعلق الأمر بفكرة الدولة اليهودية، “اعترض الجميع إلا نحن – أنا وستالين”.[3]

ولكن هناك ما ينفي هذا الاحتمال:

– يُنقل عن ستالين في مؤتمر يالطا في فبراير 1945، قوله للرئيس الأميركي روزفلت بأن اليهود “وسطاء، ومستفيدون، وطفيليون”.

– أمّا برنارد لويس فيؤكد أنه غير مقتنع بمقولة تأثر ستالين بمعاناة اليهود، ويطرح فرضية تتساوق مع المقولات الشائعة حول ستالين مفادها: أنه من الصعب تصديق أن ستالين، الذي قتل ملايين لا حصر لها في معسكرات الاعتقال الخاصة به، تأثر بالتعاطف مع محنة ضحايا هتلر الباقين على قيد الحياة.

شغل أندريه غروميكو السياسي السوفييتي والقائد الحزبي البارز، مناصب حكومية وحزبية عديدة وهامة:

تميزت مواقف غروميكو بالصراحة والوضوح، ويمكننا القول بإنه عبّر عن موقف الاتحاد السوفييتي الذي أقر، لأول مرّة، بإمكانية إقامة دولة يهودية في فلسطين. وقد كثّف موقفه وموقف حكومته من قرار تقسيم فلسطين في خطابين هامين من على منصة الجمعية العمومية للأمم المتحدة: كان الخطاب الأول يوم 14 أيار 1947، والثاني بتاريخ 26 تشرين الثاني 1947 (أي قبل ثلاثة أيام من اتخاذ الجمعية العمومية للأمم المتحدة قرار تقسيم فلسطين). وكنا قد أشرنا سابقاً في هذه الدراسة أهم المواقف التي تضمنها هذان الخطابان.

ووفقًا للوثائق التي كُشف عنها لاحقاً، فإن وزير الخارجية السوفييتي آنذاك، فاشيسلاف مولوتوف، أرسل في 28 نيسان 1947 تعليمات تفصيلية إلى غروميكو في نيويورك تتعلق بالموقف السوفييتي من قرار تقسيم فلسطين، ولا يشك كثير من المؤرخين في أن ستالين كان مطلعاً وموافقاً على هذه السياسة. كما أن إيفان باكولين، مدير دائرة الشرق الأوسط في وزارة الخارجية السوفييتية آنذاك، أشار في مذكرة داخلية بتاريخ 30 تموز 1947 إلى أن خطاب غروميكو الأول (بتاريخ يوم 14 أيار 1947) يعتبر مرجعاً للسياسة الخارجية السوفييتية في تأييد إمكانية إقامة دولتين في فلسطين وتسهيل هجرة مائة ألف يهودي إلى الكيان الصهيوني.[4]

في عام 1961، نشرت وزارة الخارجية السوفيتية مجلدًا من الوثائق الأساسية حول العلاقات السوفيتية العربية. وعلى الرغم من أن غروميكو نفسه كان يرأس لجنة النشر والتحرير، إلا أن الكتاب لم يتضمن أيا من خطاباته في الأمم المتحدة المؤيدة لتأسيس الكيان الصهيوني. ولم تذكر مذكراته الصادرة باللغة الروسية عام 1988 حقيقة الدعم السوفيتي لهذا الكيان خلال عامي 1947 و1948، أو دوره في إعلان ذلك، وكأن السوفييت كانوا يرغبون في نسيان موقفهم في تلك الآونة!

احتل إيفان مايسكي Ivan Maisky مركزاً هاماً في العلاقة بين السوفييت وقيادة الحركة الصهيونية وخصوصاً حاييم ڤايتسمان[5] ودافيد بن غوريون. ومايسكي يهودي بولندي، كان ثورياً وقضى الحرب العالمية الأولى في المنفى البريطاني، وعاد إلى روسيا بعد ثورة 1917 وانضم إلى الحزب البلشفي وعمل منذ ذلك الحين في السلك الدبلوماسي. شغل مايسكي من عام 1932 إلى عام 1943، منصب سفير الاتحاد السوفييتي في بريطانيا، وخلال اقامته هذه في بريطانيا، بنى علاقات صداقة مع بعض شخصيات النخبة السياسية والفكرية البريطانية والصهيونية.

مع حلول عام 1943 وفي سياق إرهاصات مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، أخذ السوفييت يتحدثون عن “المشكلة اليهودية” والتي رأوا أنها ستصبح مشكلة ملحة بعد انتهاء الحرب. ففي سبتمبر 1943، التقى مايسكي ب ڤايتسمان الذي قال له إن الصهاينة كانوا “ودودين تجاه روسيا ويأملون أن تفهم الحكومة السوفيتية أهدافهم”. فكان أن أجابه مايسكي بأنه لا يمكنه إلزام حكومته، لكنه يعتقد أن السوفييت سيدعمونهم، وأن روسيا ستقف إلى جانبهم بالتأكيد. وكان هذا التصريح قد سبق خطاب غروميكو في الأمم المتحدة بثلاث سنوات ونصف.

التقى مايسكي الزعيم الصهيوني حاييم ڤايتسمان في فبراير 1941، وفق ما جاء في مذكرات الأول، حيث أعرب عن بعض الدهشة حول أمل ڤايتسمان في توطين خمسة ملايين يهودي على أرض كان يسكنها آنذاك مليون عربي، وحين تساءل مايسكي عن هذه الإمكانية أجاب ڤايتسمان أن العربي هو “أبو الصحراء…. أعطني الأرض التي يحتلها مليون عربي، وسأوطن فيها بسهولة خمسة أضعاف هذا العدد من اليهود “. وكان ڤايتسمان في رده يستند على تقرير لمهندس ري الأمريكي يدعى والتر كلاي لودرميلك، الذي قدّر أن البلاد يمكن أن تستوعب أربعة ملايين مهاجر يهودي أوروبي.

في لقائه الثاني مع ڤايتسمان في سبتمبر 1943، كرر مايسكي قلقه بشأن “صغر مساحة” فلسطين، وفي الشهر التالي (أكتوبر 1943) أثار مايسكي القضية ذاتها مع بن غوريون مستفهماً عن قدرة فلسطين على استيعاب الهجرة اليهودية؟ فكان جواب بن غوريون “مليوني يهودي”.[6]

في رأي بعض المحللين أن الزعيمين الصهيونيين، ڤايتسمان وبن غوريون، حاولا استمالة مايسكي مؤكدان له أن التنظيم الاجتماعي والاقتصادي لليشوڤلم يكن متوافقاً مع الشيوعية فحسب، بل كان يشبهها أيضاً. ويُذكر أن بن غوريون شدد في أكتوبر 1941، على الرغم من أنه ليس شيوعيا، على أن الكيبوتسات “من وجهة نظر اقتصادية… كانت شيوعية”، وأن فلسطين كانت موطناً لـ “الحركة العمالية المنظمة الوحيدة في كل الشرق الأوسط” و “نواة الكومنولث الاشتراكي”.

في مارس 1943، أرسل ڤايتسمان مذكرة إلى مايسكي، تضمنت هذا المقطع:

“تتجسد ثلاثة من الجوانب الأساسية للفلسفة الاجتماعية السوفيتية في النظام الوطني الذي بنته الحركة الصهيونية في فلسطين:

(1) الرفاه الجماعي وليس المكسب الفردي هو المبدأ التوجيهي والهدف من الهيكل الاقتصادي؛

(2) أُنشئت المساواة في المكانة في المجتمع بين العاملين في المجالين اليدوي والفكري؛

و(3) بالتالي يتم توفير النطاق الكامل للحياة الفكرية وتطوير العمل. لا توجد حواجز نفسية أساسية أمام التفاهم المتبادل، ولم تشعر الحركة الصهيونية أبدًا بأنها معادية للفلسفة الاجتماعية السوفيتية.”[7]

في أكتوبر 1943، وفي طريق عودته إلى موسكو مروراً بفلسطين، زار مايسكي فلسطين والتقى ب بن غوريون وجولدا مائير ولكنه لم يتصل بالجانب العربي. وفي هذه الزيارة اصطحبه بن غوريون في زيارة للكيبوتس بالقرب من القدس، ويبدو أن مايسكي أعرب عن اهتمامه بجوانب الحياة الاجتماعية في الكيبوتس.

كتب مايسكي تقريراً عن زيارته لفلسطين ظل محاطاً بالسرية. وفي حين أنه ليس هناك ما يؤكد تأثير هذا التقرير على صناعة الموقف السوفييتي من قرار تقسيم فلسطين، إلاّ أن بعض التكهنات تقول إنه (التقرير) “مليء بالإعجاب بالإنجازات التقدمية الرائعة لليهود في فلسطين”. غير أن المؤرخ غابرييل جوروديتسكي، مترجم ومحرر مذكرات مايسكي، يقول إن مايسكي “ضلل” بن ​​غوريون بالقول إنه كان يمارس نفوذاً واسعاً على السياسة الخارجية السوفيتية، ويعتقد هذا المؤرخ أن تأثير مايسكي على ستالين والقيادة السوفييتية كان ضئيلاً.

_________

https://kanaanonline.org/2022/10/27/%d9%85%d9%84%d8%a7%d8%ad%d8%b8%d8%a9-%d9%85%d9%86-%d9%83%d9%86%d8%b9%d8%a7%d9%86-3/embed/#?secret=0On2eQa8xi#?secret=N3ZYnstmOe


[1] المرجع السابق.

[2] فلاديسلاف زوبوك، روسي من مواليد موسكو، أستاذ التاريخ الدولي في الجامعات الأميركية والكندية وخبير في الحرب الباردة وتاريخ الاتحاد السوفيتي والحقبة الستالينية والتاريخ الفكري الروسي في القرن العشرين.

[3] المرجع السابق.

[4]  أنطوان شلحت: “ستالين والدولة اليهودية “.

[5] حاييم ڤايتسمان أو وايزمان (والأدق أن نقول ڤايتسمان) Chaim Weizmann (1874 – 1952)، عالم في الكيمياء الحيوية، من مواليد روسيا ومن أكبر الزعماء الصهاينة في القرن العشرين. شغل منصب رئيس المنظمة الصهيونية العالمية لفترتين: الأولى من عام 1921 الى 1931، والثانية من عام 1935 إلى 1946، وكان أول رئيس للكيان الصهيوني منذ انتخابه في 16 فبراير 1949 حتى وفاته عام 1952. لعب ڤايتسمان دوراً فعالًا في الحصول على وعد بلفور من بريطانيا (1917)، وفي وقت لاحق في إقناع حكومة الولايات المتحدة بالاعتراف بدولة “إسرائيل” بعيد تأسيسها عام 1948.

[6]Martin Kramer: “Who Saved Israel in 1947?”

[7] المرجع السابق.

الجزء السادس

(1)

اتسمت الحركة الشيوعية في فلسطين منذ بدايتها عام 1919 ببعض الإشكاليات التي لاحقت مسيرتها حتى قيام الكيان الصهيوني وبعده، وأهم هذه السمات:

(2)

عبّر الشيوعيون في فلسطين عن موقفهم من قرار التقسيم ورؤيتهم للحل المسألة الفلسطينية في تلك الفترة من خلال التنظيميْن الشيوعييْن الرئيسييْن: الحزب الشيوعي الفلسطيني وعصبة التحرر الوطني في فلسطين. وقد اتفق التنظيمان على المطالبة بإنهاء الاستعمار البريطاني وجلاء قواته عن فلسطين، ولكنهما تباعدا في تصور مستقبل فلسطين وحل المسألة الفلسطينية. ففي حين رأى الحزب الشيوعي الفلسطيني أن الحل يكون بإقامة دولة واحدة ثنائية القومية، دعت عصبة التحرر الوطني في فلسطين إلى دولة مستقلة ديمقراطية موحدة لجميع سكانها.

أمّا موقف هذين التنظيميْن الشيوعييْن من قرار التقسيم، فسوف نعرضه هنا باقتضاب، ولكننا أفردنا في نهاية هذه الدراسة ملحقاً يتضمن المزيد من الملاحظات علّها تسهم في رسم السياق الذي تمت فيه صياغة موقف الشيوعيين في فلسطين من قرار التقسيم.

موقف الحزب قبل قرار التقسيم: مع تفاقم الأوضاع الحزبية الداخلية، ازدادت حدة الصراع بين الجناحين العربي واليهودي داخل الحزب الشيوعي الفلسطيني على خلفية الخلافات في الموقف من اليهود والصهيونية، والهجرة اليهودية، وكذلك الموقف من دور الفلاحين الفلسطينيين وطبيعته التقدمية في محاربة الصهيونية والاحتلال الاستعماري البريطاني. ونتيجة لذلك، وعلى هذه الأرضية، تعمقت الخلافات التي بذرت بذور الشقاق بين العرب واليهود داخل صفوف الحزب الشيوعي الفلسطيني، خاصةً بعد حركة تعريب الحزب الذي بدأ جدياً عام 1939 وتبلور عام 1943.[2]

كان الحزب حتى عام 1944 يركز على فضح طبيعة المغامرة الصهيونية ورفع شعار: “انشاء جمهورية ديمقراطية مستقلة تؤمن حقوقا كاملة للأقلية اليهودية”، ولكن الحزب عاد بعد سنتين وطالب بإنشاء “دولة ديمقراطية عربية-يهودية”.[3] اما الجناح اليهودي في الحزب فقد أصدر في تلك الفترة 1947 بيانات غامضة وخفف من هجماته على الصهيونية ورفع شعار (جمهورية ديمقراطية مستقلة) على اعتبار أن هذا يؤمن الحقوق الكاملة للعرب واليهود.[4]

يرى مائير فلنر[5]، القائد في الحزب الشيوعي في فلسطين، أنه في فلسطين “يعيش شعبان في هذه البلاد ولهما مصالح مشتركة. مستقبلهما منوط بقيام دولة ديمقراطية غير منحازة”، مضيفاً “لا يمكن أن تقوم في البلاد دولة عربية صرف ولا يمكن أن تقوم دولة عبرية..”.[6]  وقد أوضح (فلنر) في 25 آذار 1946 موقف حزبه قائلاً ما مفاده: نشعر أن واجبنا يدعونا أن نكون حذرين من المكائد التي تهدف إلى تقسيم فلسطين. إن خطة التقسيم هي برنامج إمبريالي مُصمم لإيجاد شكل جديد لاستمرار الحكم البريطاني القديم حتى يزيد من التوتر بين العرب واليهود. إن مصلحة القوى الإمبريالية تكمن في إيجاد دولة للعرب ودولة لليهود، والنتيجة الحتمية لهذه المطالب ستؤدي إلى استمرارية الحكم الكولونيالي على العرب واليهود.

في تموز 1947، زارت فلسطين اللجنة الدولية لتقصي الحقائق (يونسكوب UNISCOP)، وأوصت بتقسيم البلاد إلى دولتين: عربية ويهودية. ورد الحزب الشيوعي في فلسطين على توصيات هذه اللجنة ببيان بتاريخ 1 سبتمبر 1947 (أي قبل أقل من ثلاثة أشهر من صدور قرار التقسيم) حدد فيه موقف الحزب من هذه التوصيات ونشرته صحيفة الحزب الشيوعي الفلسطيني “كول هعام”، جاء فيه: “مع نشر توصيات اللجنة الدولية بشأن مستقبل البلاد يجب القول بشكل واضح: إن توصيات الأكثرية في اللجنة الدولية ليست منطقية وغير قابلة للتطبيق. صحيح أنها أوصت بتقسيم “جيد”، لكنه “جيد” إلى درجة لم يكن بن غوريون يحلم بها. فحتى الوكالة اليهودية نفسها لم تطالب بأن تكون يافا وبئر السبع في إطار الدولة اليهودية”. وأضافت الصحيفة: “إن اقتراح الأكثرية في اللجنة الدولية لا يحقق الاستقلال القومي لا لليهود ولا للعرب، وإنما يضع الأسس للسيطرة الأجنبية على كلا الشعبين.”

في الخلاصة، رفض الحزب قرار التقسيم واعتبره غير عادل، وليس منطقياً وغير قابل للتحقيق، وبعد خطاب غروميكو وتأييد الاتحاد السوفييتي لتقسيم فلسطين، هاجم الحزب “مشروع الدولتين المنفصلتين وأيد مشروع دولة واحدة من قوميتين”. أمّا بعد صدور قرار التقسيم عن الأمم المتحدة في 29 نوفمبر 1947، فقد “وافق الشيوعيون الفلسطينيون عامة على قرار التقسم بعد أن أصبح هذا القرار ناجزاً عالمياً، على الرغم من أن عصبة التحرر الوطني والشيوعيين الفلسطينيين كانوا هم الذين تمسكوا حتى اللحظة الأخيرة أكثر من أي قوة فاعلة أخرى على الساحة الفلسطينية والعربية برفض مشروع التقسيم”.[7]

تضمن البرنامج السياسي لعصبة التحرر الوطني في فلسطين منذ تأسيسها مطلبيْن أساسييْن: (1) إنهاء الانتداب البريطاني و(2) إقامة دولة مستقلة ديمقراطية موحدة لجميع سكّانها. وفي نوفمبر 1945، أعلنت العصبة عن برنامجها واستمرت بالعمل به حتى صدور قرار التقسيم عام 1947 الذي أحدث انشقاقاً فيها.

ومن أهم التالية التي تضمنها هذا البرانامج:[8]

– استقلال فلسطين وإنشاء حكومة ديمقراطية مستقلة

– إشاعة الحريات الديمقراطية

– إيقاف الهجرة اليهودية

– فصل قضية فلسطين عن قضايا اللاجئين اليهود

– إحالة المشكلة اليهودية إلى الأمم المتحدة للفصل فيها.

في يونيو 1947 القى عضو المكتب السياسي للعصبة إميل توما – رئيس تحرير جريدة العصبة “الاتحاد”، والذي كان آنذاك من أكبر معارضي التقسيم داخل العصبة – محاضرة أكد فيها معارضته لتقسيم فلسطين ودعي لإقامة دولة ديمقراطية مستقلة في فلسطين.

وجهت العصبة، في أغسطس 19471، مذكرة إلى هيئة الأمم المتحدة، دعت فيها إلى إنهاء الانتداب البريطاني على فلسطين، وسحب الجيوش الأجنبية منها وإقامة دولة ديمقراطية مستقلة، تضمن حقوقاً متساوية لجميع سكانها من العرب واليهود. 

في 19 أكتوبر 1947، ورداً على موقف أندريه غروميكو ممثل الاتحاد السوفييتي في الامم المتحدة، كتبت جريدة “الاتحاد”: “منذ تصريح غروميكو تبين أن موقف الاتحاد السوفيتي من مستقبل البلاد يقوم على إحدى إمكانيتين: إما الحل من خلال التفاهم اليهودي العربي على أساس إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية مستقلة، وإما التقسيم، ولا يوجد طريق ثالث.. إن الإتحاد السوفيتي أعلن موقفه هذا مع العلم بأن الخيار الأول غير وارد في ظل المؤامرات الامبريالية والصهيونية، وهو ما يعني قبول التقسيم، برغم أن التقسيم هو الحل الأسوأ”.

وأضافت الصحيفة: “نحن لا نقبل موقف الاتحاد السوفييتي هذا بشأن القضية الفلسطينية. ونحن على قناعة بأن التقسيم هو حل غير عادل يحاولون فرضه على سكان البلاد من دون الاكتراث بمواقفهم. إن هذا الحل لا يحقق طموح السكان ولا يضمن الأمن والسلام في إنحاء البلاد، وليس من شأنه وقف المؤامرات الامبريالية”. وواصلت القول إن: “صداقتنا مع الاتحاد السوفييتي.. لا تعني أننا نأتمر بسياسته الخارجية. فنحن الذين نقرر سياستنا على أساس وضع قضيتنا وأهداف شعبنا التحررية العادلة”. وانتهت “الإتحاد” إلى القول: “علينا ان نعمل على توحيد صفوف الحركة الوطنية من أجل النضال ضد التقسيم ومن أجل إلغاء الانتداب البريطاني وجلاء العساكر الأجنبية وتحقيق استقلال البلاد”.[9] أي أن العصبة رفضت قرار التقسيم واعتبرته غير عادل، وأكدت أن “صداقتنا مع الاتحاد السوفييتي لا تعني أننا نأتمر بسياساته”. ودعا بولس فرح أحد مؤسسي وقادة عصبة التحرر إلى التمييز بين رفض قرار العصبة وبين تفهم موقف الاتحاد السوفييتي. وفي ديسمبر 1947، تم التصويت داخل المكتب السياسي للعصبة ولجنتها المركزية على معارضة قرار التقسيم.

– فقبل إقرار قرار التقسم كانت الخيارات بين (1) القبول بقرار التقسيم، من جهة، أو (2) إقامة دولة ديمقراطية علمانية (وهو ما دعت له العصبة)، أو دولة ثنائية القومية (وهو ما دعا له الحزب الشيوعي الفلسطيني).

– أما بعد صدور قرار التقسيم فقد أصبحت الخيارات بين (1) تقسيم فلسطين إلى دولتين، أو (2) نكبة شعب فلسطين. أي أن السؤال بات: هل يمكن انقاذ حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني؟[11]

وقد كان للدعم السوفييتي لقرار تقسيم فلسطين أثراً كبيراً على انقسام عصبة التحرر الوطني إلى قسمين:

الأول، بقيادة فؤاد نصار وإميل حبيبي يؤيد مشروع التقسيم ويتماشى مع السياسية السوفييتية؛

والثاني، بقيادة موسى الدجاني وإميل توما يعارض التقسيم ويؤيد الموقف الوطني العربي.

ولابد من التنبيه هنا أن إميل توما ومعه آخرون ممن عارضوا قرار التقسيم في ذلك الحين، عادوا لاحقاً ليؤيدوه. أمّا الدكتور خليل البديري، فقد أكد ” … وقوفه ضد المزاعم الصهيونية منذ تلك الفترة وحتى اليوم شباط 1975، وأن ما رفضته قيادة النضال الوطني الفلسطيني وعصبة التحرر الوطني في عام 1947 أي (مشروع التقسيم) ندعو لقبوله اليوم كخطوة على طريق حل المسألة الفلسطينية”.[12]

خلاصة القول، إنه كان من تداعيات قبول العصبة بقرار التقسيم ونكبة فلسطين (1948) وما تلا ذلك من تطورات جسيمة ومتسارعة على الساحة الفلسطينية، إحداث انشقاق في العصبة واعتزال بعض قادتها العمل السياسي، وانضمام بعضهم إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي (1948)، ما جعل عصبة التحرر الوطني مبعثرة في مواقع ثلاثة منفصلة عن بعضها البعض داخل الكيان الصهيوني وقطاع غزة والضفة الغربية. وفي عام 1951 أقر تنظيم العصبة في الضفة الغربية برنامجا سياسياً جديداً، وغيّر اسمه إلى الحزب الشيوعي الأردني وضمّ بين صفوفه بعض الحلقات الماركسية في شرقي الأردن.

_________

….https://kanaanonline.org/2022/10/27/%d9%85%d9%84%d8%a7%d8%ad%d8%b8%d8%a9-%d9%85%d9%86-%d9%83%d9%86%d8%b9%d8%a7%d9%86-3/


[1] ناجي علوش، “الحركة الوطنية الفلسطينية أمام اليهود والصهيونية 1882- 1848″، ص 263- 266.

[2] مهدي عبد الهادي، ص 117.

[3] ناجي علّوش، المرجع السابق، ص 266.

[4] مهدي عبد الهادي، “المسألة الفلسطينية ومشاريع الحلول السياسية! (1934-1974)”، ص 121.

[5] مير فيلنر Meir Vilner (1918 – 2003)، مستوطن يهودي من بولندا. انضم في عام 1940 إلى الحزب الشيوعي الفلسطيني، وشغل مناصب حزبية عديدة من بينها عضو اللجنة المركزية في الحزب الشيوعي الإسرائيلي، نائب سكرتير الحزب، عضو المكتب السياسي وأمين عام الحزب. وكان الأصغر سناً بين الموقعين على ما يُسمى “إعلان الاستقلال الإسرائيلي” عام 1948. المصدر: موقع “الكنيست” الصهيوني https://main.knesset.gov.il/ar/MK/APPS/mk/mk-print/395

[6]  عصام مخول “قرار التقسيم: عصبة التحرر الوطني – وطريق فلسطين الى الحرية”، ص 124.

[7] عصام مخول، المرجع السابق، ص 128.

[8] عبد القادر ياسين، “كفاح الشعب الفلسطيني قبل العام 1948″، ص 202.

[9] عصام مخول، المرجع السابق، ص 124 – 125.

[10] عبدالقادر ياسين، انظر مقال “التباسات حول تقسيم فلسطين”.

[11] انظر مقال عصام مخول في المرجع السابق، ص 126

[12] مهدي عبد الهادي، المرجع السابق، ص 121.الكاتب

الجزء السابع

نتناول في هذا الفصل موقف الصهيونية من تقسيم فلسطين وقبولها بقرار الأمم المتحدة بتقسيمها، ونقارب هذه المسألة من خلال طرح السؤالين التالييْن:

الأول: هل كان قبول الحركة الصهيونية لقرار التقسيم منطلقاً من تكتيك مرحلي أو رؤية إستراتيجية؟

والثاني: آخذين بعين الاعتبار العلاقة العضوية للحركة الصهيونية مع الإمبريالية الغربية، كيف نظر الصهاينة إلى الدعم السوفييتي لتقسيم فلسطين، وهل ذهبوا إلى حد التوهم بأن الاتحاد السوفييتي سيكون “حليفاً” لهم بفضل دعمه هذا؟

في تعاملها مع الأبعاد الدولية للمسألة الفلسطينية، تميزت السياسة الصهيونية في أربعينيات القرن العشرين بركنيْن هاميْن: (1) العمل على الحيلولة دون احالة قضية فلسطين إلى الأمام المتحدة، و(2) التمسك بالتحالف مع الإمبريالية الغربية، البريطانية ولاحقاً الاستدارة إىل الإمبريالية الأميركية بعد مؤتمر بـِلتمور (مايو 1942).

بعد صدور قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين، رحبت القيادة الصهيونية بهذا القرار ولم تأبه بمعارضة ورفض بعض الدول للاستيطان الصهيوني في فلسطين، انطلاقاً من براغماتية الإستراتيجية الصهيونية في استغلال الأوضاع الدولية، وما فيها من تناقضات وتوازنات، بما يخدم مصالحهم. وفي إطار هذه الإستراتيجية قبلت الحركة الصهيونية قرار التقسيم مرحلياً وليس بديلاً عن مشروعها الاستيطاني التوسعي، أي دون أن تتخلى عن هدفها النهائي بإقامة الدولة اليهودية مستقبلاً على ارض فلسطين بأكملها وتدرجها في تحقيق أهدافها الاستراتيجية وأهمها:

1) سيادة يهودية في البدء على جزء من فلسطين.

2) قبول الدول الكبرى بحق الهجرة اللامحدود.

3)  بسط السيادة اليهودية على فلسطين بكاملها.

4) توسيع رقعة “إسرائيل” نحو الدول المجاورة.

5) بسط السيطرة اليهودية العسكرية والاقتصادية على المنطقة بأسرها وتحقيق “الاندماج المهيمن للكيان الصهيوني” في الوطن العربي.[3]

سعت الحركة الصهيونية منذ انطلاقة مشروعها الاستيطاني في فلسطين، إلى التحالف مع القوى الإمبريالية وكسب دعم القوى العظمى. ولم تدّخر في هذا المسعى جهداً منذ مؤتمرها التأسيسي (1897) في محاولة استمالة الإمبراطوريتيْن العثمانية والألمانية، إلى حين توثيق علاقتها ببريطانيا وفرنسا خلال الحرب العالمية الأولى ما تجلى في اتفاقية سايكس – بيكو (مايو 1916) ووعد بلفور (2 نوفمبر 1917). وقد شكّل انهيار الإمبراطورية العثمانية مرحلةً فاصلة في علاقة الصهيونية مع الإمبريالية البريطانية، حيث كانت تشير المعطيات آنذاك إلى هزيمة تلك الإمبراطورية في الحرب العالمية الأولى وجلاء قواتها عن فلسطين والمشرق العربي ما دعا إلى العمل على ترسيخ العلاقة مع الإمبريالية البريطانية وكسب دعمها للمشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين.

قدّم الاحتلال البريطاني لفلسطين (1918-1948)، العديد من أشكال الدعم الثابت وعلى كافة المستويات للمشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين وتسهيل إقامة “وطن قومي لليهود” فيها. وعلى الرغم من ذلك، شهدت العلاقات الصهيونية – البريطانية خلال تلك السنوات بعض التوترات خاصة فيما يتعلق بالقيود التي فرضتها بريطانيا على الهجرة اليهودية إلى فلسطين في بعض الأحيان. وقد بلغت هذه التوترات أوجها بعد صدور “الكتاب الأبيض” عام 1939 بسبب الإجراءات البريطانية التي هدفت إلى الحد من الهجرة اليهودية خلال الحرب العالمية الثانية [4]، فرد الصهاينة في فلسطين على هذه الإجراءات بالتمرد وحمل السلاح ضد البريطانيين والقيام بسلسلة من عمليات الاغتيال والانتقام.

في سياق هذه التوترات والوهن الذي حلّ بالإمبراطورية البريطانية خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها، أخذ القلق يساور القيادة الصهيونية حول: مَن سيكون راعي المشروع الصهيونية بعد بريطانيا؟ وقد جاءت الإجابة على هذا السؤال في قرارات مؤتمر بـِلتمور الصهيوني Biltmore Conference[5] الذي شكّل نقطة التحول من بريطانيا إلى الولايات المتحدة كمركز رئيسي للنشاط الصهيوني. وتنبع أهمية هذا المؤتمر ودلالاته السياسية والتاريخية من قراراته التي رسمت السياسة الصهيونية في تلك الفترة وحددت توجهاتها. ومن أهم هذه القرارات: (أنظر ملحق “مؤتمر بـِلتمور”)

أ) المطالبة للمرة الأولى بدولة يهودية في فلسطين باعتراف دولي

ب) نقل محور النشاط الصهيوني من بريطانيا إلى الولايات المتحدة وتحالفه معها

ج) المطالبة بفتح أبواب فلسطين على مصراعيها أمام الهجرة اليهودية

د) بناء قوة عسكرية صهيونية تحارب تحت رايتها الخاصة بجانب قوات الحلفاء.

صحيح أن الصهاينة أخذوا بمغادرة الأحضان البريطانية والانتقال إلى التحالف مع الإمبريالية الأميركية الصاعدة بعد الحرب العالمية الثانية، غير أن هذا لم يحل، ضمن فهمهم للأوضاع الدولية بعد الحرب، دون التقاط لحظة الانتصار السوفييتي على ألمانيا النازية، وصعود الاتحاد السوفييتي كقوة دولية عظمى، وانتهاز هذه الفرصة التاريخية للتعاون والتنسيق مع السوفييت من أجل ضمانة دعمهم للمشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين خلال سنوات الحرب وبعدها. وقد بذلوا جهوداً كبيرة في هذا المسار بسنوات قبل إعلان أندريه غروميكو في خطابه عام 1947 للموقف السوفييتي، على الرغم من التصريحات والادعاءات المتعددة بأن الموقف السوفييتي من قرار تقسيم فلسطين وإقامة كيان صهيوني على أرضها، كان مفاجئاً للقيادة الصهيونية وأنه شكّل تغيراً في الموقف السوفييتي التقليدي.[6]

ولكن، هل يعني هذا أن الصهاينة نظروا إلى الاتحاد السوفييتي ك “حليف”؟ أو هل ساورهم الشك بتحالفهم الإستراتيجي مع الإمبريالية الغربية؟ بكلمات أخرى، هل توهم الصهاينة بأن دعم السوفييت والتعاون معهم يرقى إلى مستوى تحالفهم العضوي والإستراتيجي مع الإمبريالية الغربية وتوظيفهم كأداة لها في المشرق العربي؟

نقدم فيما بعض الملاحظات التي قد تضيء على بعض جوانب الإجابة على هذه الأسئلة:

مع الاقتراب من نهاية الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، واستشراف التطورات الكبيرة المقبلة بعد سكوت الجبهات العسكرية ونشأة نظام جيوسياسي عالمي جديد، أدركت القيادة الصهيونية (ڤايتسمان وغيره):

أ) أن الاتحاد السوفيتي سيكون قوة عظمى في النظام العالمي الناشئ؛

ب) وأن بريطانيا ستخرج من هذه الحرب ضعيفة ومنهكة؛

ج) وهذا يستدعي إعادة النظر في تحالفات الحركة الصهيونية مع القوى العظمى.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن القادة الصهاينة كانوا على علم وإدراك بالسياسية السوفيتية، وكذلك بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي كان يعيشها الاتحاد السوفييتي، ومن أبرز هؤلاء القادة كان دافيد بن غوريون[8] الذي كان يتقن الروسية وعلى معرفة بطريقة عمل النظام السوفييتي.

على هذا الأساس أخذ القادة الصهاينة يعدّون الخطة لمستقبل الأيام، وشرعوا في استمالة الاتحاد السوفييتي وكسب دعمه، واستغلال المنافسة التي أخذت بوادرها تلوح بين المعسكرين في بدايات الحرب الباردة، وذلك من أجل الحصول على المزيد من الدعم وخصوصاً من الجانب الأمريكي.

شاعت في تلك الآونة ولدوافع مختلفة، مقولة مفادها إن المهاجرين اليهود كانوا يميلون للاتحاد السوفييتي، وأنهم سيكونون داعمين لسياساته في الدولة اليهودية الناشئة، وربما سيكون بعضهم “عملاء” للسوفييت. غير أن الكثيرين من اليهود والصهاينة كانوا يجدون أن هذه المقولة بعيدة عن الصحة. فحسب رأي آرثر كويستلر، لم يكن هناك شك في أن التيار الرئيسي للصهاينة يفضل الغرب وأن التعاطف مع السوفييت كان سطحياً وآنياً وربما نشأ بفضل تردد الغرب في استقبال الكيان الصهيوني.

جدير بالذكر في هذا الصدد، أن مثل هذه المقولة شاعت أيضاً بين معارضي الصهيونية من المسؤولين الأميركيين العاملين في مؤسسات صناعة القرار الأميركية (وزارة الخارجية الأميركية ووكالة المخابرات المركزية والبنتاغون)، وأثارت مخاوفهم في أن تصبح الدولة اليهودية الناشئة تابعة للسوفييت حيث سيتسلل عملاء سوفييت بين المهاجرين اليهود. غير أن القادة الصهاينة سارعوا إلى نفي هذا الادعاء، وبعث حاييم ڤايتسمان برسالة إلى الرئيس الأميركي ترومان عشية التصويت على قرار التقسيم، محذراً إياه من تصديق الإشاعات والتكهنات “بأن مشروعنا في فلسطين قد يستخدم بطريقة ما كقناة لتغلغل الأفكار الشيوعية في الشرق الأوسط”. ومضى ڤايتسمان في التأكيد على موقف الحركة الصهيونية من أن المهاجرين اليهود يغادرون في الحقيقة البلدان الاشتراكية في أوروبا الشرقية لأنهم لا يرغبون بالاندماج في تلك المجتمعات بل يريدون الابتعاد عن الشيوعية، ولو كانت هناك محاولة جادة من قبل السوفييت لإدخال التأثيرات الشيوعية في الكيان الصهيوني من خلال الهجرة اليهودية، لكان بإمكانهم فعل ذلك بسهولة في العقود السابقة.[10]

________

https://kanaanonline.org/2022/10/27/%d9%85%d9%84%d8%a7%d8%ad%d8%b8%d8%a9-%d9%85%d9%86-%d9%83%d9%86%d8%b9%d8%a7%d9%86-3/embed/#?secret=JK0Ay3z0eA#?secret=KxUYYjR0Nh


[1] إميل توما، “جذور القضية الفلسطينية”، ص 304.

[2] موقع “الحدث” على الرابط التالي:

https://www.alhadath.ps/article/7699/%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%88%D9%85-%D8%B0%D9%83%D8%B1%D9%89-%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B1-%D8%AA%D9%82%D8%B3%D9%8A%D9%85-%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86-181

[3] نحت د. عادل سماره مفهوم ومصطلح “الاندماج المهيمن للكيان الصهيوني في الوطن العربي” والمقصود به تلك الخطط والمحاولات من الثورة المضادة لجعل الكيان الصهيوني كياناً “طبيعيا” في الوطن العربي، ومن أجل ذلك يتم اعتماد التطبيع، والتخلي عن مقاطعة الكيان وعقد اتفاقات تسوية معه وإشراك الكيان في بنى تحتية مع الأقطار العربية وخاصة المحيطة بفلسطين المحتلة (دول الطويق) مثل الكهرباء والطرق والاتصالات…الخ. والاندماج المهيمن يعني التوصل إلى استسلام عربي تجاه الكيان أي التخلي عن حق العودة وعن المقاومة وعن شن اية حرب تحريرية لتحرير فلسطين. في التحليل الأخير، فإن الهدف من الاندماج المهيمن هو شطب حق العودة، واعتراف العرب بالكيان وكل ذلك لإبقاء السيطرة الرأسمالية الغربية على هذا الوطن وبقائه مجزَّءً وبقاء الكيان الصهيوني حارساً لتأبيد هذه التجزئة.

[4] من أجل تعرية المبالغات والأكاذيب حول توتر العلاقات الصهيونية – البريطانية خلال فترة الانتداب البريطاني، يجدر بنا أن نتذكر أن حكومة الانتداب البريطاني لم تنفذ رسمياً توصيات “الكتاب الأبيض” لعام 1939، بل على العكس من ذلك فتحت عمليا أبواب فلسطين للهجرة الصهيونية “بشتى أشكالها”. فقد وصلت إلى سواحل فلسطين بعد الحرب (1945-1948) 65 سفينة تقل نحو 70 ألفاً من المهاجرين “غير شرعيين”، تسلل قسم منهم إلى البلاد. واضطرت الحكومة البريطانية إلى احتجاز نحو 50 ألفا منهم في معسكرات خاصة في قبرص. ثم أخذت تدخلهم إلى فلسطين على دفعات بمعدل 750 مهاجر شهرياً. راجع فصل “الهجرة الصهيونية إلى فلسطين” في “الموسوعة الفلسطينية”.

[5] عُقد مؤتمر بـِلتمور، ويُشار إليه أحياناً باسم برنامج بـِلتمور، في فندق بـِلتمور في مدينة نيويورك بتاريخ 11 مايو 1942، تحت قيادة وتنظيم حاييم ڤايتسمان (رئيس المنظمة الصهيونية العالمية) ودافيد بن غوريون (رئيس الوكالة اليهودية).

[6] على سبيل المثال، يُنقل عن أبا إيبان، أحد القادة الصهاينة، أنه تفاجأ من تصريحات غروميكو، بل اعتبره “بطلاً صهيونياً”، حسب ما يدّعي بعض الكتاب الصهاينة. راجع مقالMartin Kramer: “Who Saved Israel in 1947?”

[7] منذ بدأت الهجرة اليهودية لاستيطان فلسطين، وخاصة بعد قيام الكيان الصهيوني، كثرت الادعاءات حول قوة “اليسار الصهيوني” (الذي كان يؤيد الاتحاد السوفيتي في تلك الفترة)، ولكن هذا “اليسار” حتى في أوج صعوده كان ضعيفاً. وعلى سبيل المثال نذكر أن هذا اليسار لم يستقطب أكثر من 15 في المائة من الجمهور في أول انتخابات “إسرائيلية” عام 1949 – وانخفض بشكل مطرد بعد ذلك. راجع مقال Martin Kramer: “Who Saved Israel in 1947?”

[8] وُلد دافيد بن غوريون (1886 – 1973) في بولندا، (التي كانت في ذلك الوقت مُجزّءة بين الإمبراطوريتين: النمساوية – الهنغارية والروسية، وكانت جزءً من الأخيرة بين عامي 1795- 1918)، وهاجر إلى فلسطين عام 1906. كان بن غوريون من طلائع الحركة العمّالية الصهيونية، وعمل مبكراً على تنظيم العمال اليهود، واشترك العام 1905 في المؤتمر الأول لحزب بوعالي تسيون (عمال صهيون) الذي انعقد في بولندا، وكان أحد مؤسسي وزعماء الهستدروت (الاتحاد العام لنقابات العمال الإسرائيلية) منذ عام 1921. انتخب بن غوريون عام 1935 رئيساً للوكالة اليهودية في القدس حتى قيام الكيان الصهيوني. وبعد صدور قرار تقسيم فلسطين، كان بن غوريون من أكبر الزعماء الصهاينة الذين نشطوا في تنفيذ هذا القرار على المستويين السياسي والعسكري، وتم انتخابه ليكون أوّل رئيس وزراء للكيان الصهيوني في 4 مايو 1948 حتى وفاته في 26 يناير 1954).

[9] Martin Kramer: “Who Saved Israel in 1947?”

[10] Martin Kramer, Ibid.

الجزء الثامن

دخلت الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها المسرح الدولي الذي كان يشهد ملامح تكوّن نظام عالمي جديد تبلور في أعقاب تلك الحرب. وقد أعطى هذا التطور المشروع الاستيطاني الصهيوني والمسألة الفلسطينية أبعاداً جديدة، إذ توافق مع تغيّر في سياسة الولايات المتحدة التي أخذت تولى اهتماماً كبيراً لمنطقة المشرق العربي (التي تُسمى في الخطاب الغربي “الشرق الأوسط” و”شرق البحر الأبيض المتوسط”)، بعد أن كانت تعتبرها من مسؤولية بريطانيا.

من العوامل والمتغيرات الهامة التي شهدتها تلك الفترة والتي أسهمت في صياغة الموقف الأميركي في دعم المشروع الاستيطاني الصهيوني من ناحية، وانتقال الحركة الصهيونية وأنشطتها إلى الولايات المتحدة من ناحية ثانية، كان العاملان التاليان:

2) تعاظم دور الصهيونية والجالية اليهودية في الولايات المتحدة.

(1)

‏عقدت الحركة الصهيونية مؤتمراً في فندق بـِلتمور في نيويورك في مايو 1942 (يطلق عيه اسم مؤتمر أو برنامج بـِلتمور). وتكمن أهميته هذا البرنامج في أنه بلّور بوضوح معلن هدف الصهيونية بإقامة دولة يهودية في فلسطين، وحسم انتقال الحركة الصهيونية من الاعتماد على الإمبريالية البريطانية إلى الإمبريالية الأمريكية. كما أسهم هذا المؤتمر وبرنامجه في تحديد الموقف الأميركي من قرار التقسيم وفي تعاظم تأثير ودور الحركة الصهيونية والجالية اليهودية في سياسة الولايات المتحدة حيال الأهداف الصهيونية.

في نوفمبر 1942، صادق المجلس الصهيوني الضيق على برنامج بـِلتمور، كما أقرته الوكالة اليهودية وأكثرية الأحزاب في فلسطين. وكان من نتائج المصادقة على برنامج بـِلتمور على مستوى قيادة الحركة الصهيونية أن وضَعَ بن غوريون في مكان القيادة بدل ڤايتسمان وعمّق الشقة بين الوكالة اليهودية وبريطانيا.[1]

(2)

ازداد نشاط الحركة الصهيونية ونفوذ الجالية اليهودية في الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها، كونها أكبر وأغنى طائفة يهودية في إطار الحركة الصهيونية، خاصة وأن أوضاع الطوائف اليهودية في أوروبا تدهورت نتيجة المحرقة النازية. وكان هذا من العوامل الهامة التي أثرت في صياغة الموقف الأميركي من قرار تقسيم فلسطين وإقامة الدولة اليهودية فيها.

وقد تجلى النفوذ الصهيوني في أربعينيات القرن العشرين بازدياد التأييد الأميركي للحركة الصهيونية ومشروعها الاستيطاني في فلسطين، وشهدت تلك الفترة العديد من أنشطة الشيوخ والنواب في الكونجرس الأمريكي في دعم المطالب الصهيونية. ففي عام 1944 تقدم عدد كبير من الشيوخ والنواب في الكونجرس الأمريكي بمشروع قرار يدعو إلى إقامة الدولة اليهودية وهجرة يهودية غير محدودة إلى فلسطين. وفي معركة انتخابات الرئاسة في الولايات المتحدة في خريف 1944، نشر الشيخ (سيناتور) واغنر نص رسالة كتبها الرئيس الأمريكي روزفلت وأعلن فيها “تأييد فتح أبواب فلسطين لهجرة يهودية غير محدودة واستيطان كولونيالي يؤدي إلى إقامة دولة يهودية ديمقراطية وحرة في فلسطين”.[2]

مع اقتراب نهاية الحرب العالمية الثانية، جمع مؤتمر يالطا (4-11 فبراير 1945) الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت مع زعيمي الاتحاد السوفييتي وبريطانيا: جوزيف ستالين وونستن تشرشل. وبعد اختتام هذا المؤتمر وفي طريق عودته إلى الولايات المتحدة، التقى الرئيس الأميركي روزفلت في 14 فبراير 1945 بالملك بن سعود على متن سفينة يو إس كوينسي USS Quincy التي كانت راسية في قناة السويس، وأبرما اتفاقية سرية توفر بموجبها الولايات المتحدة الأمن العسكري للمملكة العربية السعودية (مساعدات عسكرية وتدريب وقاعدة عسكرية في الظهران) مقابل تأمين الوصول إلى مواقع النفط وإمداداته والسيطرة عليها. وقد كانت فلسطين ومستقبلها حاضرة في هذا اللقاء حيث أعرب الملك السعودي عن تعاطفه مع محنة اليهود خلال الحرب العالمية الثانية والمحرقة النازية، ولكنه قال إن إقامة وطن لليهود في فلسطين سيكون غير عادل للفلسطينيين. وفي الرد قال روزفلت في رسالة لاحقة إنه “لن أتخذ أي إجراء قد يكون معادياً للشعب العربي”. وقد تجلت ازدواجية السياسة الإمبريالية الأميركية ونفاقها في لقاءات الرئيس روزفلت مع القادة الصهاينة في الولايات المتحدة حيث كان يؤكد لهم أنه يشاركهم في هدفهم إقامة الدولة اليهودية، وفي الوقت ذاته كان يعد ابن سعود ملك السعودية بأن لن يقوم بأي إجراء يضر بالقضية العربية.[3] وجدير بالذكر هنا، أن الهجرة اليهودية غير المقيدة إلى فلسطين شكّلت العمود الفقري لمقومات الدولة اليهودية، وهو ما ركزت عليه السياسية الصهيونية جلّ جهودها في تلك المرحلة.

في هذا الصدد تجدر بنا العودة إلى عام 1942 خلال أتون الحرب العالمية الثانية وإلى ما رواه حاييم ڤايتسمان في كتابه “التجربة والخطأ”، والذي يؤكد المخططات الإمبريالية في فلسطين وتواطؤ الأنظمة العربية العميلة معها، حيث قال إن تشرتشل استدعاه في 11 مارس 1942 وقال له “أريد أن تعرف أن لدي خطة يمكن أن توضع موضع التنفيذ بعد الحرب. أود أن أرى ابن سعود سيد الشرق الاوسط أي سيد الأسياد على شرط أن يتفق معكم، ويعتمد عليكم أن تحصلوا على أفضل الشروط بالاتفاق معه … وسنساعدكم طبعاً. احتفظ بهذا سراً ولكنك تستطيع أن تتحدث مع روزفلت حين تذهب إلى أمريكا. لا شيء لا نستطيع تحقيقه إذا صممنا أنا وهو سوياً عليه”.[4]

خلاصة القول، إذن، أن الإمبريالية الأميركية أدركت أهمية قيام الدولة الصهيونية في فلسطين في خدمة مشاريعها ومصالحها، ولهذا رمت بثقلها في جهود توسيع الاستيطان الصهيوني وقيام تلك الدولة. ومن هنا كان تصويتها لصالح قرار التقسيم كمقدمة لبناء الدولة اليهودية. ولكنها حرصت، في الآن ذاته، على إرساء علاقتها مع المملكة السعودية على أساس ضمان السيطرة على منابع النفط، من ناحية، وارتباط هذا النظام بالتبعية للولايات المتحدة التي توفر له الحماية وتحافظ على أمنه وبقائه. وهكذا اخذ الصراع مع الصهيونية بعداً جديداً، إذ لم تستطع الحركة الوطنية الفلسطينية المتخلفة آنذاك، ولا الأنظمة العميلة والتابعة والعاجزة أن تدركه او تعطيه أهمية.[5]

قبل خطاب أندريه غروميكو في الأمم المتحدة (مايو 1947)، واتضاح الموقف السوفييتي من تقسيم فلسطين وإقامة دولة يهودية على أرضها، كان موقف الإمبريالية الأميركية (مؤسسات صنع القرار فيها: مثل وزارة الخارجية الأميركية، مجلس الأمن القومي، وزارة الدفاع (، يتمحور، كما تشير بعض التحليلات، حول الاحتمالات والتوقعات التالية:

أ) كانت الولايات المتحدة تراهن على أن الاتحاد السوفييتي سوف يعارض تشكيل دولة يهودية في فلسطين أو جزء منها، لأن السوفييت يعتبرون الصهيونية أداة للغرب وستكون هذه الدولة معادية للاتحاد السوفيتي؛ ولأن السوفييت، كما قدّر الأميركيون يفضلون استقلال فلسطين بأغلبية سكانها العرب الحاليين. وفي هذه الحالة ستصوت الولايات المتحدة لصالح قرار التقسيم.

ب) أمّا إذا أيد الاتحاد السوفييتي قرار التقسيم، فسيكون غرضه من ذلك، وفق التوقعات الأميركية، خلق حالة من الاضطراب والفوضى قد تؤدي إلى حرب يستغلها السوفييت لصالحهم، لأن زرع الفتنة والخلاف في البلدان غير الشيوعية، كما رأى الأميركيون، يلائم الأهداف السوفيتية ويسهل استغلال الأوضاع الناتجة عن ذلك في خدمة المصالح السوفييتية وتوسيع نفوذها.

من ناحية أخرى، يرى بعض المحللين أن تأييد الاتحاد السوفييتي لقرار التقسيم والاعتراف بالكيان الصهيوني، من منظور الحسابات السوفييتية، كان يهدف إلى إحداث شرخ في العلاقات الأميركية – العربية في فلسطين: فمن الجانب السوفييتي لم هناك ما يخسروه لأنهم لا يملكون شيئاً، على عكس الولايات المتحدة التي ستخسر الكثير مع حلفائها العرب من جرّاء دعمها للكيان الصهيوني.[6]

هناك أيضاً بعض التحليلات التي تعمل على إثارة الشكوك حول طبيعة وحقيقة الموقف الأميركي من الكيان الصهيوني والاعتراف به، والترويج لمقولة إن الاعتراف الأميركي بهذا الكيان كان مدفوعاً بالمخاوف من أن الاتحاد السوفيتي قد يفعل ذلك أولاً. وليس هناك من شك بأن الإمبريالية الأميركية كانت ترصد بحذر وخشية مواقف وتحركات الاتحاد السوفييتي ودوره في المشرق العربي والمسرح العالمي بأسره، ولكن الحقيقة، التي لا يرقَ إليها الشك، أن موقف الإمبريالية الأميركية كان دائماً وتاريخياً داعماً للمشروع الصهيوني كقاعدة إمبريالية متقدمة في المشرق العربي وكمدخل للهيمنة على الوطن العربي وثرواته. ولتعزيز هذه المقولة (أي أن الموقف الأميركي جاء رداً استباقياً على الموقف السوفييتي المتوقع) يشير أصحابها إلى إنه خلال الاجتماع الذي قرر فيه الرئيس الأميركي ترومان الاعتراف بالكيان الصهيوني، قدم مستشار البيت الأبيض كلارك كليفورد حجة مفادها أنه من خلال الاعتراف بإسرائيل يمكن للولايات المتحدة أن تسبق الاتحاد السوفييتي.[7]

في حين ظلّ الاتحاد السوفييتي على دعمه لقرار التقسيم، أخذت الولايات المتحدة (التي صوتت لصالح هذا القرار) تتراجع عن فكرة التقسيم وأعلنت استحالة تنفيذه واقترحت وصاية دولية “مؤقتة” (بإشراف الأمم المتحدة) على فلسطين بدلاً من تقسيمها. ففي 19 مارس 1948، أعلن ممثل الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة وارن أوستن أمام مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أن موقف الولايات المتحدة هو أن تقسيم فلسطين لم يعد خياراً قابلاً للتطبيق. وفي اليوم التالي (20 مارس 1948) أعلن وزير الخارجية الأميركية جورج مارشال أن الولايات المتحدة ستسعى للعمل داخل الأمم المتحدة لتحقيق تسوية سلمية لفلسطين، وأن اقتراح وصاية الأمم المتحدة المؤقتة على فلسطين هو الفكرة الوحيدة التي يتم النظر فيها حالياً. وقد جاء الرد السوفييتي، الذي أكد دعمه لقرار التقسيم، على لسان غروميكو الذي هاجم بتاريخ 20 أبريل 1948، الاقتراح الأمريكي البديل الذي يدعو إلى وصاية الأمم المتحدة على فلسطين باعتبارها فكرة من شأنها أن تضع فلسطين “في حالة من العبودية الاستعمارية الفعلية”، وكرر (غروميكو) أنه فقط تقسيم فلسطين إلى دولتين مستقلتين، عربية ويهودية، من شأنه أن “يرضي التطلعات المشروعة للشعب اليهودي، الذي عانى الكثير في ظل نظام هتلر”، محذراً من مغبة التصويت على الوصاية الدولية على فلسطين، وأنه إذا ما تم التصويت لصالحها، فإن الاتحاد السوفيتي سيصوت بـ “لا” [8] وسيعارض موقف الولايات المتحدة التي اعتبرت الإشراف الدولي على فلسطين الطريقة الوحيدة للحل.[9]

أكد حاييم ڤايتسمان، بعد تنصيبه كرئيس للكيان الصهيوني (من فبراير 1949 حتى وفاته عام 1952)، لجيمس ماكدونالد، أول سفير للولايات المتحدة، أن “شعبنا ديمقراطي ويدرك أنه فقط من خلال تعاون ودعم الولايات المتحدة يمكن أن يصبحوا أقوياء ويبقون أحراراً”. أمّا بن غوريون، فأكد في كلمة ترحيبه بهذا السفير، على موقف الكيان الصهيوني من الاتحاد السوفييتي قائلاً إن “إسرائيل” ترحب بالدعم الروسي، لكنها لن تقبل هيمنة سوفيتية. إسرائيل ليست غربية في توجهها فقط، بل شعبنا ديمقراطي ويدرك أنه لا يمكن أن يصبح قوياً وأن يبقى حراً إلا من خلال التعاون مع الولايات المتحدة”.[10] وفي تأكيده على الموقف الصهيوني، كتب ماكدونالد أنه: “عندما اضطرت إسرائيل إلى اتخاذ خيارها، كان هذا الخيار دائماً تقريباً مؤيداً للغرب”.

أمّا ما يستدعي الاستغراب حقاً، فكان ما قاله بافيل يرشوف، السفير الأول للاتحاد السوفييتي لدى للكيان الصهيوني، الذي وافق على هذا الرأي معرباً عن أسفه لأن “إسرائيل” أخذت “تنزلق أكثر فأكثر نحو الموقف الأمريكي” و “قد تستسلم تمامًا للأمريكيين، لتصبح أداة لتحقيق خططهم التوسعية”.[11] يبدو وكأن هذا السفير، الذي كان الممثل الأول للاتحاد السوفييتي لدى الكيان الصهيونية بعد قيامه عام 1948، قد استفاق فجأة ليرى في هذا “الانزلاق” الصهيوني كان أمراً غير متوقع، وهو ما يشير إلى خلل في فهم الصهيونية ومشروعها في فلسطين، من ناحية، والارتباط العضوي للكيان الصهيوني بالإمبريالية وكونه أداةً لخدمة مصالحها في الوطن العربي.

_________

https://kanaanonline.org/2022/10/27/%d9%85%d9%84%d8%a7%d8%ad%d8%b8%d8%a9-%d9%85%d9%86-%d9%83%d9%86%d8%b9%d8%a7%d9%86-3/embed/#?secret=ftTFscCv09#?secret=H3wUebReRe


[1] إميل توما، “جذور القضية الفلسطينية”، ص 288-289.

[2] إميل توما، المرجع السابق، ص 288.

[3] إميل توما، المرجع السابق، ص 289.

[4] إميل توما، المرجع السابق، ص 301.

[5] ناجي علوش، “الحركة الوطنية الفلسطينية أمام اليهود والصهيونية 1882- 1848″، ص 291.

[6] عبد الوهاب المسيري، “موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية”، المجلد (3)، ص 173.

[7] مقال Martin Kramer: “Who Saved Israel in 1947?

[8] مقال Martin Kramer في المرجع السابق.

[9] مقال “ستالين: بين دعم إسرائيل وقمع اليهود” لدومينيك فيدال.

[10]مقال Martin Kramer في المرجع السابق.

[11] للاستفاضة راجع:

1) U.S. Administration on the Partition of Palestine: Timeline of Events, 9 September 2013

2) The Question of Palestine, UN website, https://www.un.org/unispal/history/الكاتب

الجزء التاسع

بدون الخوض في إشكاليات النقد التي تشوب الخطاب السياسي والإعلامي العربي، نرى أن نقد الموقف السوفييتي من قرار تقسيم فلسطين لا يحتمل التردد والاحجام، بل يتطلب مراجعة نقدية وجذرية. ومن الناحية الثانية، فإن منطق العزوف عن هذا النقد، بغض النظر عن الدوافع والأسباب، لا ينفي ضرورة نقد الذات وتحملنا، أنظمةً وشعوباً، مسؤولية ما حلّ بنا من ويلات وكوارث.

أ) الآثار الجسيمة التي خلّفها هذا القرار على مجمل تلك المرحلة من تاريخنا ومستقبل فلسطين والمشرق العربي وزرع الكيان الصهيوني في قلبه.

ب) كون الاتحاد السوفييتي صاحب أول ثورة اشتراكية في التاريخ الحديث، والتزامها الأيديولوجي بالماركسية – اللينينية ودعمها لكفاح الشعوب المستعمَرة من أجل استقلالها، بالإضافة إلى جسامة التضحيات البشرية والمادية التي قدّمتها الشعوب السوفييتية لإنقاذ العالم من جرائم النازية والفاشية.

ج) ولا يقل أهمية عن هذا، ما خلّفه الموقف السوفييتي من آثارٍ على مجمل الحركة الشيوعية والعمالية العربية والعالمية، تلك الآثار التي لا تزال تثقل كاهل هذه الحركة وتشتت قواها وتياراتها في العديد من النزاعات والخلافات.

إن النظر إلى الموقف السوفييتي، من منظور هذه العوامل يضيء على سياسات الاتحاد السوفييتي وجسامة الخطأ الذي وقع فيه، كما وقعت فيه أحزابنا التي التزمت بموقفهم التزاماً أعمى ومنافٍ لمصالح شعوبنا، وهو ما يؤكد على ضرورة نقده.

من اللافت أن هذا الموقف جاء في عصر انتصار السوفييت والعالم على النازية والفاشية، وبداية انفتاح صفحة جديدة في تاريخ الشعوب ونهوض حركات التحرر الوطني في العالم الثالث خلال خمسينيات وستينيات القرن العشرين، وهو ما يثير التساؤل حول تورط بعض صانعي القرار السوفييتي ومستشاريه في النظر إلى الصهيونية ك “حركة تحرر وطني للشعب اليهودي” وأنها تناضل من “أجل إقامة دولته وحقه في تقرير مصيره”. وهو ما يشير إلى خللٍ جذري في الموقف الأيديولوجي والسياسي السوفييتي من الصهيونية وشرعنه الاستعمار الاستيطاني، من جهة، ويتناقض مع دعم ومساندة الشعوب المستعمَرة، من جهة أخرى.

هذا ما تأكده وقائع القرن المنصرم، ومَنْ يدري فربما هناك من الوقائع والمخططات والاتفاقيات التي ما زالت سرية ولم يتم الكشف عنها. ولكن هذه العوامل التي تضيء على وظيفة الكيان الصهيوني والكيانات القُطرية العربية، لا تجيز الاستهانة بموقف الاتحاد السوفييتي الكارثي، ولا تعفيه من تبعات سياساته التي أسهمت في منح “الشرعية” لقرار تقسيم فلسطين والاعتراف بالمستعمرة الاستيطانية الصهيونية على حساب شعبٍ آخر. بل ربما يجوز لنا أن نذهب إلى ما هو أبعد: إذ هناك مَنْ يقول إن قرار تقسيم فلسطين قدّم للصهيونية أكثر ما قدمه وعد بلفور، بمعنى أن الأخير طرح مشروع “وطن قومي” لليهود، أمّا الأول فمنحهم “دولة”.

(1)

على الرغم من موقف الاتحاد السوفييتي من الحركة الصهيونية منذ الثورة البلشفية لعام 1917، ومعاداته لها فكرةً وحركةً ومشروعاً، نرى أن الموقف السوفييتي انقلب حين أيد منح الحركة الصهيونية “دولة يهودية” في فلسطين (قرار التقسيم) والاعتراف بالكيان الصهيوني فور قيامه في مايو 1948. وبغض النظر عن الأسباب والذرائع السياسية والتاريخية والإنسانية و”الاشتراكية” التي طرحها السوفييت في تفسير دعمهم لقرار التقسيم، فإن هذا الموقف، بالمدلول العملي، يعني توظيف فلسطين وشعبها لخدمة المصالح الاستراتيجية السوفييتية. فمن الواضح أن الاتحاد السوفييتي كان يتلمس في تلك الآونة دوره الجديد كقوة عظمى في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية وفي الصراع المحتدم في فلسطين والمشرق العربي.

فهل كان الموقف السوفييتي تعبيراً عن براغماتية أم انقلاباً في الأيديولوجيا السوفييتية؟ أم كلاهما؟ وما الذي حدا بالاتحاد السوفييتي لتأييد قيام دولة “إسرائيل” والاعتراف بحقها في الوجود؟

لعل ما ورد على لسان أندريه غروميكو يقدم بعض الإجابة على هذا السؤال: “بالنسبة لنا هناك دائما منطق واحد في السياسة الخارجية وهو منطق ما هو الأفضل للاتحاد السوفييتي”. هنا تتجلى البراغماتية السوفييتية في قراءتها لقرار تقسيم فلسطين، وهي قراءة قاصرة ومستندة إلى المصالح السوفييتية الآنية.

أما فياتشيسلاف مولوتوف، وزير الخارجية السوفييتي من عام 1946 إلى 1949، أي إبّان فترة التصويت على قرار التقسيم، فيسعفنا في فهم المنطق السوفييتي حين يميّز بين “الموقف من الصهيونية” و “حق الشعب اليهودي في دولته”، فيقول: “أن تكون ضد الصهيونية والبرجوازية شيء، وأن تكون ضد الشعب اليهودي شيء آخر … لطالما ناضل اليهود من أجل دولتهم تحت العلم الصهيوني. كنا طبعا ضد الصهيونية. لكن رفض حق شعب ما في إقامة دولة سيعني اضطهاده.”[1] وهنا تكمن المفارقة: أن يقوم الاتحاد السوفييتي – الذي طالما اعتبر نفسه معادياً للصهيونية – بدعم كيان صهيوني استعماري استيطاني على أرض شعبٍ آخر.

أمّا الوجه الآخر للبراغماتية السوفييتية، فقد انكشف في خمسينيات القرن العشرين، حين أدرك الاتحاد السوفييتي ارتباط الكيان الصهيوني العضوي بالإمبريالية الغربية وعدم جدوى المراهنة عليه، فلجأ (السوفييت) حينها إلى التحالف مع العرب.

(2)

لقد استند الاتحاد السوفييتي في تشخيصه للواقع القائم آنذاك في فلسطين إلى مقولة إن “سكان فلسطين يتألفون من شعبين، يهودي وعربي”، وأن “لكل شعب منهما جذور تاريخية في فلسطين”، وهو موقف أقل ما يقال فيه:

أ) أنه فهم تحريفي ينافي حقائق التاريخ، وانحياز للجانب الخاطئ من التاريخ، وتسليم بالبروباغندا الصهيونية وادعاءاتها التوراتية الكاذبة (أرض الميعاد، شعب الله المختار، الوعد الإلهي)، ما يثير سؤالاً أعمق: كيف للماركسي والشيوعي أن يصدق مثل هذه الادعاءات الغيبية و”الوعود الإلهية”؟

ب) كما أن هذا الموقف يتناقض مع الخطّ الأيديولوجي والسياسي السوفييتي في مكافحة الصهيونية ومعاداتها، وهو الموقف الذي تميز به الاتحاد السوفييتي والحركة الشيوعية على مدى العقود.

ج) ويناقض الموقف السوفييتي الداعم، منذ الثورة البلشفية، لكفاح الشعوب المستعمَرَة من أجل التحرير والاستقلال.

ألم يكن حرياً بالخبراء و”العلماء” السوفييت أن ينقبوا في التاريخ ليدركوا أن الجماعات اليهودية – التي لملمت مهاجريها من أكثر من مئة بلدٍ وقومية ودفعت بهم إلى فلسطين – قد شكّلت بالفعل الكتلة البشرية للمشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين!

ولكن هل حقاً أن السوفييت لم يدركوا هذه الحقائق، أم أنهم انساقوا وراء مصالحهم كدولة عظمى؟ وأن حقائق التاريخ لم تغير من موقفهم شيئاً، فرأوا في آلاف المستوطنين اليهود شعباً ذا “جذور تاريخية في فلسطين”، وأنه “يناضل من أجل تأسيس دولته” و”حقه في تقرير مصيره”؟

أليس هذا في أبسط المعايير تحريفاً للماركسية والشيوعية ووقوفها مع نضال الشعوب!

(3)  

صحيح أن الاتحاد السوفييتي لم يعر اهتماماً كبيراً للموقف الفلسطيني والعربي من حيث الموافقة أو الرفض لقرار التقسيم، وصحيح أيضاً أنه كان يدرك أن الاستعمار البريطاني سوف ينسحب من فلسطين وأن الحركة الصهيونية وعصاباتها المسلحة كانت متأهبة لإعلان “دولتها المستقلة” في ظل اختلالٍ كبير لموازين القوى فلسطينياً وعربياً ودولياً. ولكن كيف كان للسوفييت، الذين نادوا بحق الشعوب المضطَهدة في الكفاح من أجل حريتها واستقلالها وتقرير مصيرها، أن يبرروا منح “الشرعية” لكيان استيطاني على حساب حق الشعب الفلسطيني في وطنه وأرضه!

الآن، وبعد مرور ما يزيد عن قرن من الزمن على اتفاقية سايكس – بيكو ووعد بلفور واتفاقية فيصل – ڤايتسمان[2]، وسبعة عقود على قيام الكيان الصهيوني، وعلى ضوء هرولة الأنظمة العربية للتطبيع مع هذا الكيان، [مصر (كامب دافيد 1979)، وم.ت.ف. (اتفاقيات أوسلو 1993)، والأردن (اتفاقية وادي عربة 1994)]، وصولاً إلى كافة الأنظمة العربية المطبّعة مع هذا الكيان، بعد كل هذا وعلى الرغم منه، فإن التجربة التاريخية الطويلة تثبت أن مسألة الاعتراف بالكيان الصهيوني وشرعيته، ليست مسألة تكتيكية عابرة، أو خاضعة لمصالح آنية، بل هي مركزية في الصراع العربي – الصهيوني ومشروع الهيمنة الصهيونية – الإمبريالية على الوطن العربي، ولا تقل أهميةً وتأثيراً في الأوضاع الإقليمية والدولية. فالحقيقة الناصعة هي أن الشعوب العربية ومعها العديد من شعوب العالم وقواه التقدمية لا تزال ترفض شرعية هذا الكيان والتطبيع معه.

ولكن، بالإضافة إلى الموقف والتشخيص السوفييتيين الخاطئين، وسياسية الاتحاد السوفييتي البراغماتية في تحقيق مصالحه، هناك أبعاد وتداعيات أخرى نجمت عن موقفه الاتحاد السوفييتي من فلسطين وشعبها وغيره من الشعوب العربية، نناقش بعضها في الفقرات التالية.

لقد أسهب السوفييت، على لسان ممثلهم في الأمم المتحدة أندريه غروميكو، في الحديث عن معاناة اليهود وعذاباتهم وضرورة “التعويض” عنها، وعن “الحق اليهودي التاريخي” و”الحقوق الأزلية لليهود في فلسطين”. وفي هذا الصدد، لا يصعب على مَنْ يتمعن في هذه المواقف أن يلمس المنطق الإمبريالي الغربي ذاته الذي يقرّ بمنطق الاستيلاء على أراضي الشعوب الأخرى واستيطانها، كما كان الحال في نشوء المستوطنات الأوروبية البيضاء في الولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلاند على سبيل المثال. أي أن المنطق السوفييتي، بغضّ الطرف عن العوامل والادعاءات الأيديولوجية والتاريخية وحتى الإنسانية والأخلاقية، كان يتوافق مع منطق الإمبريالية الغربية، وذلك من حيث دعمه لقرار تقسيم فلسطين وإقامة دولة يهودية على أرضها سعياً وراء استخدام هذا الكيان لمصالح الاتحاد السوفييتي أو كي يكون حليفاً له في المستقبل.

فمنطق غروميكو في حديثه عن ارتباط “الشعب اليهودي” التاريخي بفلسطين، يستند إلى ذرائع طالما استخدمها (ولا يزال) الخطاب الإمبريالي والعنصري الأوروبي الأبيض: أي أنه يقر ب ويبرر تعويض اليهود عن معاناتهم في أوروبا والجرائم النازية بمنحهم الحق في إقامة وطن لهم في فلسطين. بعبارة أخرى، يتم الإقرار بالمسؤولية الأخلاقية عن معاناة اليهود من الجرائم النازية في أوروبا، أما تعويضهم عنها فيكون على حساب الشعب الفلسطيني.

تأتي القرارات الدولية، بغض النظر عن صياغتها اللغوية الأنيقة، تعبيراً عن موازين القوى، وهو ما يُعبر عنه في خطاب السياسة والإعلام ب “الشرعية الدولية” أو شرعية وقانونية قرارات الأمم المتحدة. وعليه، فحتى لو عمد المرء إلى استخدام منطق وحجة “الشرعية الدولية”، فإن السوفييت وخبراءهم في القانون الدولي يدركون، كغيرهم من الدول الكبرى التي دعمت قرار تقسيم فلسطين، أن موقفهم يخالف القانون الدولي.

لقد مَنَح قرار التقسيم “الشرعية” لهجرة مئات الآلاف من اليهود الصهاينة من شتى بقاع العالم إلى فلسطين التي كانت آنذاك واقعة تحت الاحتلال البريطاني (1918-1948)، ما يجعل هذه الهجرة مخالفة للقانون الدولي الذي يحرّم أي تغييرات ديمغرافية يجريها الاحتلال الأجنبي والاستعمار في البلدان المستعمَرة.

أمّا غروميكو فقد استخدم تبريراً ومنطقاً يدّعي أن قضية فلسطين لا تمس مصالح اليهود في فلسطين وحدها وإنما تمس أيضاً مصالح اليهود في شتى أنحاء العالم. وهو تبرير يتناقض مع الموقف اللينيني من إطلاق صفة الأمة أو الشعب على اليهود يمثل موقفاً رجعياً، وأن التمسك بالقومية اليهودية يتعارض مع مصالح البروليتاريا اليهودية. وقد ذهب غروميكو إلى الأبعد حين دعم اقتراحاً يمنح الوكالة اليهودية حقاً استثنائياً يتيح لهم الاشتراك في مناقشات ومداولات الجمعية العامة للأمم المتحدة.

إن منح الشرعية للكيان الاستعماري الاستيطاني في فلسطين، هو مخالفة قانونية وإنسانية وأخلاقية للحقوق الطبيعية والشرعية بحق سكان البلاد الأصليين، وهي “شرعية” لا تُمنح للكيان الصهيوني في اقتلاع الشعب الفلسطيني واستيطان وطنه، لأنها (شرعية) تقوم على المساواة والمماثلة بين أصحاب الأرض الأصليين والغزاة المستوطنين.

يقول رأي إنه إذا صحّ القول إن الموقف السوفييتي من قرار تقسيم فلسطين مهَّد ل “شرعية” دولة “إسرائيل” ووفر “الأساس القانوني” لها، فإنه تَعاملَ بالمثل مع عرب فلسطين ووفر لهم أيضاً “الأساس القانوني” لإنشاء دولة عربية في فلسطين. وذه حجة واهية للأسباب التي أتينا عليها، ولا تبرر للسوفييت تأييدهم في إقامة مستعمرة استيطانية في فلسطين، ولا تبرر موقفهم من قضية فلسطين وشعبها واستيطان وطنه، لأنها تستند في الجوهر إلى المماثلة بين المستوطنين اليهود الغزاة والسكان العرب الأصليين. وقد أكد غروميكو هذا التوجه في أكثر من مناسبة بقوله ما مفاده إن ان السوفييت يعتقدون أن قرار تقسيم فلسطين يتطابق مع المصالح القومية الأساسية لكل من اليهود والعرب، وأن الاتحاد السوفييتي لا يمكنه إلاّ أن يؤيد طموحات أي دولة وأي شعب في نضاله ضد الاستعمار والاضطهاد الأجنبي مهما كان وزن هذا الشعب صغيراً في الشؤون الدولية.

ليس من المنطقي ولا من المعقول قبول هذه الحجة. فهل يُعقل أن السوفييت الذين يدعمون “نضال أي شعب يناضل ضد التبعية الأجنبية”، لم يروا في المشروع الصهيوني مشروعاً استعمارياً استيطانياً لفلسطين ويجافي حقوق شعبها!

لقد تجاهل السوفييت حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى وطنهم.

– قدّم فولك برنادوت، وسيط الأمم المتحدة، بعد قيام الكيان الصهيوني (1948)، مشروعاً تضمن بين بنوده منح العرب حق العودة إلى أراضيهم التي استولى عليها الكيان، ولكن السوفييت أيدوا الاعتراض الصهيوني على هذا المشروع وفضّلوا أن “يُمنح اليهود الفرصة للتوصل إلى اتفاق مع العرب في هذا الشأن في سياق مفاوضات السلام”. أنظر ملحق مشروع برنادوت.

– في ديسمبر 1948 صوت الاتحاد السوفيتي ضد قرار الجمعية العامة رقم 194 الذي يضمن “حق العودة” للاجئين الفلسطينيين، (في حين صوتت الولايات المتحدة لصالح).

(4)

– فقد تسبب الاحتلال العثماني خلال قرونه الأربعة في تدمير كافة مقوماتنا الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وفي تخلف تطوره وتقدمه. ثم جاء الاستعمار الأوروبي الذي تلا العثماني ليكرس تجزئة بلادنا وتبعية الأنظمة الحاكمة للقوى الإمبريالية.

– هكذا تكاتف هذا العاملان على فقدان قدرة الشعب الفلسطيني والشعوب العربية على مقاومة الاستيطان الصهيوني والاحتلال الأجنبي، وتحديداً في ظل تجزئة الوطن العربي إلى قُطريات وأنظمة حاكمة تابعة للإمبريالية الغربية ومرتبطة بسياساتها ومصالحها.

(5)

يكمن أحد جذور الخطأ السوفييتي في موقفه من تقسيم فلسطين في تفسير مبدأ تقرير المصير كما طرحه لينين. فموقف لينين في دعم كفاح الشعوب المستعمَرة وحقها في تقرير مصيرها واضح وجلي. ولا يقل موقف البلاشفة من اليهود والمسألة اليهودية والصهيونية وضوحاً. هذا بالإضافة إلى أن القانون الدولي، إن جاز لنا أن نناقش الحجة من هذا المنظور، يجعل حق تقرير المصير حصراً على الشعب الأصلي الذي كان يسكن فلسطين لقرون طويلة وليس للمستوطنين الذي غزوها في ظل تآمر وتواطؤ الاستعمار البريطاني ودعمه للهجرة اليهودية. إضافة إلى أن ميثاق هيئة الأمم المتحدة لا يعطي الجمعية العامة أو مجلس الأمن حق تقرير المصير بعد تقسيم البلدان المستعمَرة ومنح المستوطنين الصهاينة “دولة” يقررون فيها مصيرهم السياسي “والقومي”.

لقد شكّل ادعاء الحركة الصهيونية، ولاحقاً الكيان الصهيوني، بما يُسمى حق “تقرير المصير اليهودي”، أساساً للمشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين ولإنكار حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم. ولكن هذا الادعاء يتناقض مع وقائع التاريخ، وليس في السجل التاريخي للحركة الصهيونية، ما يثبت الدعوة إلى هذا “الحق” أو استخدامه. فأيديولوجيو الحركة الصهيونية، لم يطرحوا “حق تقرير المصير لليهود” في إطار مشروعهم في استيطان فلسطين، ولكنهم سعوا بدلاً من ذلك إلى نزع الشرعية عن حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، وصولاً إلى إقرار الكيان الصهيوني ل”قانون الدولة القومية” لعام 2018.[3]

وفي هذا الصدد نشير إلى أطروحة جوزيف مسعد التي تقول “من المهم أن نلاحظ في هذا الصدد أنه على عكس الاستخدام الأحدث والمتزايد من قبل الصهاينة لمفهوم تقرير المصير اليهودي، لا كتابات هرتسل ولا المؤتمر الصهيوني الأول لعام 1897 ولا وعد بلفور لعام 1917 ولا الانتداب على فلسطين لعام 1922، استخدمت لغة “الحقوق”، ناهيك عن حق تقرير المصير. أمّا برنامج بِلتمور الصهيوني لعام 1942، فقد تحدث عن حق اليهود في “الهجرة والاستيطان في فلسطين” ولكن ليس حق تقرير المصير. وحتى ما يُسمى “إعلان الاستقلال” الصهيوني لعام 1948 عند قيام الكيان الصهيوني، فقد ذكر، كما هو الحال في برنامج بِلتمور، الحق اليهودي في فلسطين، لكنه لم يذكر حق اليهود في تقرير المصير على الإطلاق.”[4]

لم يولي السوفييت اهتماماً لمطالبة الشعب الفلسطيني بحقهم في أرضهم وتقرير مصيرهم عليها. فعلى خلاف الادعاءات الصهيونية، أصرّ الشعب الفلسطيني تاريخياً على المطالبة بحقه في فلسطين وفي تقرير مصيره عليها. لذلك نرى أن الصهاينة عمدوا دوماً إلى نزع الشرعية عن حق الفلسطينيين الأصليين في ذلك، مثلهم مثل المستعمرات الاستيطانية البيضاء التي أنكرت أن سكّان البلدان المستعمَرة يشكلون “شعباً” أو “أمة” وأنها يتمتعون بالحق في تقرير مصيرهم.

على النقيض من الغياب الملحوظ لمطالبة الصهاينة بالحق في تقرير المصير في الوثائق الصهيونية، فإن هذا الحق كان دوماً مطلباً رئيسياً للفلسطينيين، وهي حقيقة معروفة باعتراف الصهاينة أنفسهم. ففي عام 1924، أشار دافيد بن غوريون صراحةً: “للجالية العربية في الوطن حق تقرير المصير والحكم الذاتي.. الاستقلال الوطني الذي نطالب به لأنفسنا نطالب به للعرب أيضاً. لكننا لا نعترف بحقهم في حكم البلاد إلى الحد الذي لا يبنون فيه البلد ولا يزال ينتظر مَنْ سيعمل عليه. ليس لديهم أي حق أو مطالبة بمنع أو السيطرة على بناء البلد، وترميم أنقاضها، وإنتاج مواردها، وتوسيع مساحتها المزروعة، وتطوير ثقافتها، ونمو مجتمعها الكادح”.[5]

(6)

أ) من بين الحجج التي استخدمها السوفييت لتبرير منح المستوطنين الصهاينة “دولة” في فلسطين، كانت حجة تعويض اليهود عن الاضطهاد الذي تعرضوا له في المجتمعات الأوروبية من جرّاء المحرقة النازية خلال الحرب العالمية الثانية. بعبارة أخرى، يتوجب على الشعب الفلسطيني أن يدفع وطنه وأرضه ثمناً لجرائم النازية. وفي هذا تناسى السوفييت ما يعرفونه، من أن الحركة الصهيونية كانت قد أعلنت صراحةً عن مشروعها ومخططاتها لاستيطان فلسطين بعقود طويلة قبل المحرقة النازية ومنذ مؤتمرها التأسيسي عام 1897.

ب) كذلك تناسى السوفييت علاقة الحركة الصهيونية بالنازية الألمانية والفاشية الإيطالية وتواطؤها معهما من أجل الدفع بالمهاجرين اليهود إلى فلسطين هرباً من جرائم النازية.[6] (انظر ملحق: “الصهيونية والنازية”). فالادعاءات الصهيونية عن معاناة وعذابات اليهود في فترة ما بين الحربين، لم تصرف الحركة الصهيونية عن هدفها الرئيسي، ألا وهو تسهيل الهجرة اليهودية إلى فلسطين. بل على العكس، عملت الحركة الصهيونية “مع كل الأطراف، بمن فيهم النازيون أنفسهم، على توظيف تلك العذابات كي يجد أصحابها في النهاية أن طريق النجاة الوحيد المفتوح أمامهم ينتهي في القدس، لا في أيّ مكان آخر”.[7]

من الجليّ أنّ الحركة الصهيونية كانت تخشى دائماً من أيّ حلّ لمسألة اللاجئين اليهود لا يدعو ولا يعمل على هجرتهم إلى فلسطين، إذ إنه في حال قبول دول أخرى (مثل بريطانيا وأستراليا والولايات المتحدة) للاجئين اليهود من ألمانيا أو بولندا، فما الداعي عندها لوجود دولة يهودية في فلسطين؟ ولذلك بذلت الأذرع الصهيونيّة جهوداً هائلة لدى حكومات الغرب طوال فترة الحكم النازي لمنع قبول اللاجئين اليهود، واعتبرت «مؤتمر ايفيان» في عام 1938 الذي دعا إليه الرئيس الأميركيّ فرانكلين روزفلت لمناقشة أوضاع اللاجئين اليهود، بمثابة تهديد حاسم للمشروع الصهيوني. وفي تأكيده على تواطؤ الحركة الصهيونية، يقول توني غرينستاين في كتابه “الصهيونيّة أثناء الهولوكوست”، إنّ مؤتمر بِلتمور الصهيوني (مايو 1942)، الذي صيغت فيه للمرة الأولى المطالبة باعتراف العالم بدولة يهوديّة في فلسطين، لم يرد فيه أيّ ذكر لمحنة يهود أوروبا، لا الضحايا، ولا اللاجئين. ولم يُطرح الموضوع أصلاً للنقاش.[8]

في هذا السياق، نسوق اقتباساً مشهوراً عن بن غوريون من 9 كانون الأول (ديسمبر) 1938، قاله في خطاب ألقاه أمام “حزب عمال أرض إسرائيل” بعد شهر على “ليلة الكريستال”، وهي مذبحة نازية في ألمانيا قُتل فيها ما يقرب من 100 يهودي وأُحرق كل كنيس يهودي في البلاد تقريباً وتم نقل ثلاثين ألف يهودي إلى معسكرات الاعتقال. جاء في هذا الاقتباس: “إذا كنتُ أعرف أنه سيكون من الممكن إنقاذ جميع الأطفال اليهود في ألمانيا من خلال إحضارهم إلى إنكلترا، ونصفهم فقط عن طريق نقلهم إلى أرض إسرائيل، فسأختار البديل الثاني، لأننا يجب أن نفكّر ليس فقط بحياة هؤلاء الأطفال، ولكن بالأهم: تاريخ شعب إسرائيل”. “تصفيق.”[9]

(7)

ذكرنا في أكثر من مكان أن السوفييت نظروا إلى شعوبنا على أنها شعوب متخلفة، وإلى اليهود الصهاينة على أنهم “متقدمون” و”تقدميون” ومرشحون لنشر الأفكار الاشتراكية وبناء مجتمع اشتراكي في الكيان الصهيوني، ولم يعنيهم أن يقوم هذا الكيان على احتلال واستيطان وطن شعبٍ آخر. وتشير الدلائل إلى أن هذه النظرة كانت في خلفية الرؤية السوفييتية لإستراتيجيتها ومصالحها، ما يؤكد أن السياسة السوفييتية وقعت في التوهم بإمكانية زرع دولة تتبنى الأفكار الاشتراكية في المشرق العربي، ولم يروا في هذه الدولة كياناً استيطانياً وظيفياً مرتبطاً بالمصالح الإمبريالية.ويبدو أنه كان على السوفييت الانتظار حتى مطلع خمسينيات القرن العشرين، كي يتبدد هذا الوهم في بناء “إسرائيل الاشتراكية”، حين اتضح لهم تحالف الكيان الصهيوني الناشئ مع الغرب الإمبريالي، وأنه مكون عضوي في الإمبريالية الغربية وكيان وظيفي في خدمتها كقاعدة متقدمة لمشروع المهيمنة الإمبريالية على مقدرات الوطن العربي. ثم جاء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 وما تلاه من تطورات لتلقي المزيد من الضوء على ارتباط الكيان الصهيوني بالإمبريالية الغربية. وهنا ينبري السؤال التالي: هل احتاجت القيادة السوفييتية في عهد ستالين وبعده لكل هذا الانتظار ليدركوا حقيقة المشروع الصهيوني؟ أمّا الإجابة فتظل برسم الاتحاد السوفييتي والأحزاب الشيوعية العربية.

(8)

شهدت سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية ولادة الحرب الباردة واحتدام الخلافات بين المعسكرين: الاشتراكي والرأسمالي، ما أسس لعقود قادمة من الصراع بينهما. وعليه، ومن منظور الصراع بين هذين المعسكرين، فإن الموقف السوفييتي من قرار تقسيم فلسطين والاعتراف بالكيان الصهيوني الذي رافق هذه التطورات، يعبّر عن الإخفاق في فهم العلاقة العضوية والوظيفية بين الكيان الصهيوني والإمبريالية ومشروعها في الهيمنة على الوطن العربي وعلى العالم، وتحديداً العلاقة بين الصهيونية والإمبريالية الأميركية التي خلفت الاستعمار البريطاني لفلسطين بعد انسحاب قواته من فلسطين يوم 14 مايو 1948.

https://kanaanonline.org/2022/10/27/%d9%85%d9%84%d8%a7%d8%ad%d8%b8%d8%a9-%d9%85%d9%86-%d9%83%d9%86%d8%b9%d8%a7%d9%86-3/embed/#?secret=hokGfvEe6z#?secret=R61jf1krq7


[1] Martin Kramer: “Who Saved Israel in 1947?”

[2] اتفاقية فيصل – ڤايتسمان (1919): اتفاقية تم إبرامها بين حاييم ڤايتسمان، رئيس المنظمة الصهيونية العالمية وفيصل الأول، أبن الحسين بن علي، في مؤتمر باريس للسلام عام 1919، وكان من أهم بنودها: (1) ضمان تنفيذ وعد بلفور، و(2) تشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين على مدى واسع واستيطانهم أرض فلسطين.

[3] من أهم النقاط التي ينص عليها “قانون الدولة القومية” لعام 2018: أن “أرض إسرائيل هي الوطن التاريخي للشعب اليهودي، حيث تأسست دولة إسرائيل”، وأن “دولة إسرائيل هي الوطن القومي للشعب اليهودي، والتي يحقق فيها حقه الطبيعي والثقافي والديني والتاريخي في تقرير المصير “، وأخيراً ” الحق في ممارسة حق تقرير المصير القومي في دولة إسرائيل هو أمر فريد للشعب اليهودي”.

 [4] Joseph Massad, “Jewish ‘self-determination’ or Jewish supremacy?”, Middle East Eye, 22 November 2022

[5] Joseph Massad, Ibid.

[6] تعاون قادة الصهيونية مع النازية والفاشية في سبيل تسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين. وفي هذا الصدد وُقعت اتفاقيتان: (1) “اتفاقية هعفراه” (1933) بين ألمانيا النازية ويهود ألمانية الصهاينة، و(2) “اتفاقية القدس” (1940) بين منظمة “ليحي” الصهيونية والقوات الفاشية الإيطالية المتحالفة مع ألمانيا النازية.

[7] راجع مقال سعيد محمد: “الصهيونيّة والنازيّة… تعاون وتكامل أدوار”.

[8] سعيد محمد، المرجع السابق.

[9]  سعيد محمد، المرجع السابق.

الجزء العاشر

عانى الشيوعيون في فلسطين، فكراً وحركةً وتنظيمات، كما الشيوعيون في مختلف البلدان العربية، عبر العقود التي سبقت قرار تقسيم فلسطين عام 1947 وتلك التي تلته، من العديد من الصعوبات والتحديات والإشكاليات أهمها:

1) قمع الأنظمة الحاكمة للشيوعية والشيوعيين وزجهم في السجون ومنعهم من ممارسة نشاطهم السياسي والفكري بين الجماهير.

2) الإشاعات الكاذبة والاتهامات الملفقة وشتى أشكال البروباغندا والتحريض بهدف تشويه الفكر الشيوعي. وقد انضم إلى هذه المحاولات، بالإضافة إلى الأنظمة الحاكمة ومؤسساتها القمعية والمخابراتية، عديد من القوى العربية السياسية والاجتماعية بما فيها القومية والإسلامية.

3) ضعف الإلمام النظري بالفكر الماركسي – اللينيني لدى الشيوعيين العرب وندرة إسهاماتهم الفكرية والسياسية وخاصة تلك التي تعالج الواقع في فلسطين وتحليله، وما نتج عن ذلك من تبعية لما يمليه “العلماء السوفييت” وأدبيات الماركسية السوفييتية.

4) ضعف التعاطف مع الفكر الماركسي وعزلته بين الجماهير العربية في فلسطين وغيرها من البلدان العربية، وخاصة خلال الفترة الممتدة من عشرينيات القرن الماضي وحتى قيام “عصبة التحرر الوطني” عام 1943. وتعود هذه العزلة إلى عدة أسباب أهمها:

5) أدّت مجمل الأوضاع في فلسطين والإقليم الى العديد من الأزمات والخلاقات والانشقاقات الحزبية حول القضايا المركزية، وأهمها الموقف من الصهيونية، الهجرة اليهودية الاستيطانية إلى فلسطين، الموقف من تقسيم فلسطين والاعتراف بالكيان الصهيوني والحل النهائي للمسألة الفلسطينية. وقد استمرت الخلافات داخل الحزب على الرغم من الاتفاقيات المؤقتة، إلى أن تعرض الحزب عام 1943 إلى انشقاق كبير نتج عنه حزبان: أحدهما عربي اتخذ اسم “عصبة التحرر الوطني في فلسطين”، والآخر يهودي حافظ على اسم “الحزب الشيوعي الفلسطيني”. 

6) التبعية للموقف السوفييتي وتعليمات الكومنترن: كغيره من الأحزاب الشيوعية العربية والعالمية، تأثرت أوضاع الحزب الشيوعي الفلسطيني وسياساته وانقساماته بتعليمات الكومنترن (المنظمة الشيوعية الأممية) منذ انضمامه إليها في فبراير 1924، والتبعية لمواقف الاتحاد السوفييتي. وقد تجلت هذه التبعية في مستوياتها الفكرية والسياسية والتنظيمية في عدة محطات ومواقف في مسيرة الحركة الشيوعية في فلسطين كان أهمها محطتان:

الأولى، هبّة البراق وأحداث آب 1929 في فلسطين، والتي مثّلت عاملاً حاسماً في تطور الحركة الشيوعية الفلسطينية وموقف الكومنترن من الحزب الشيوعي الفلسطيني وقراره بتعريبه: تعريب قيادته وعلاقته مع الجماهير الفلسطينية منذ ثلاثينيات القرن العشرين.

والثانية، مع تغير الموقف السوفياتي من قرار التقسيم وإنشاء دولة يهودية في فلسطين، انقلب موقف الشيوعيين الفلسطينيين (الحزب الشيوعي الفلسطيني وعصبة التحرر الوطني) وغيرهم من الشيوعيين العرب، انقلب من معارضة قرار التقسيم إلى القبول به، بعد أن اتضح الدعم السوفييتي لهذا القرار والتصويت له في الأمم المتحدة. ودافع بعض الأحزاب الشيوعية واليسارية العربية عن الموقف السوفييتي، وكأنه ينطلق من منطلقات الفكر الماركسي، دون أن يدركوا أن مصالح ومتطلبات الاتحاد السوفييتي كدولة قد تتلاقى أحياناً مع الفكر الماركسي، وقد لا تتلاقى في أحيان أخرى.

ناقشنا في فصلٍ سابق موقف الشيوعيين في فلسطين من قرار تقسيم فلسطين ورؤيتهم لحل المسألة الفلسطينية، وعرضنا لموقف الحزب الشيوعي الفلسطيني (عرباً ويهوداً) من هذه القضايا وما عانى منه بسببها من انقسامات وانشقاقات خلال مسيرته، سواء في ظل قيادته اليهودية أو العربية أي خلال فترة ما قبل تعريب الحزب وبعدها. وقد نظرنا إلى هذا الموقف من خلال التنظيمين الشيوعييْن الرئيسييْن: الحزب الشيوعي الفلسطيني وعصبة التحرر الوطني في فلسطين.

في الخلاصة، رفض الشيوعيون الفلسطينيون قرار التقسيم واعتبروه غير عادل وغير منطقي وغير قابل للتحقيق. أمّا بعد أن أعلن الاتحاد السوفييتي دعمه لهذا القرار والتصديق عليه في الأمم المتحدة في 29 نوفمبر 1947، فقد “وافق الشيوعيون الفلسطينيون عامة على قرار التقسم بعد أن أصبح هذا القرار ناجزاً عالمياً، على الرغم من أن عصبة التحرر الوطني والشيوعيين الفلسطينيين كانوا هم الذين تمسكوا حتى اللحظة الأخيرة أكثر من أي قوة فاعلة أخرى على الساحة الفلسطينية والعربية برفض مشروع التقسيم”. وهنا تجدر إلى الإشارة إلى رأي يرى أن هناك انطباع خاطئ لدى كثيرين “وكأن الحل القائم على تقسيم فلسطين والذي انعكس في قرار الجمعية العمومية في 29 تشرين الثاني 1947 هو خيار الشيوعيين الفكري والسياسي”، وهو انطباع يناقض الحقائق التاريخية “أي أن هناك مَنْ يلجأ إلى هذا الخلط لتشوية مواقف الشيوعيين والتشكيك في منطلقاتهم فيما يخص دورهم إبان “النكبة والبقاء”.[1]

تكشف مراجعة التجربة الشيوعية في فلسطين ومسيرتها عن جملة من الدروس والعبر لا يقلل تقادم الزمن من أهميتها وراهنيتها:

1) أن هذه الحركة كانت تصطدم تكراراً بصخرة الموقف من الصهيونية والاستيطان الصهيوني والعلاقات العربية – اليهودية، ما أدّى إلى تمزق الحزب الشيوعي وانسلاخ العناصر اليهودية عنه حيث كانت أكثرية المستوطنين اليهود تنحاز إلى الصهيونية ومشروعها في استيطان فلسطين.

2) فشلت الحركة الشيوعية في الحفاظ على وحدة قيادتها وصفوفها وفي القيام بعمل سياسي مشترك، إذ لم يتمكن الشيوعيون العرب واليهود في فلسطين من توحيد صفوفهم ما أدّى إلى خلافات وانقسامات عديدة. وليس من المغالاة القول إن “وحدة” الحركة الشيوعية في فلسطين، كانت تعني وتتطلب بالمدلول العملي شكلاً من أشكال الوحدة بين أهل البلاد الأصليين والمستوطنين اليهود، وهي وحدة أثبتت التجربة، سواء قبل قيام الكيان الصهيوني وبعده، أنها “متخيلة” ولا تستند إلى واقع مادي وموضوعي، وأنها تصطدم بالمصالح والحقوق القومية والتاريخية لأهل البلاد الأصليين، على الرغم من الغطاء الأيديولوجي الشيوعي.

الأول، حول طبيعة دورهم وإمكانية العمل المشترك بينهم كمستوطنين غزاة من جهة، وأهل البلاد الأصليين، من جهة أخرى.

والثاني، أي عمل مشترك يمكن أن يقوم بين أصحاب الأرض والغزاة القادمين لاحتلالها واستيطانها، حتى وإن كانوا شيوعيين، أي حتى وأن توفرت الأرضية والغطاء الأيديولوجي – الشيوعي؟

4) تثبت تجربة الشيوعيين في فلسطين أن إمكانية العمل والنضال المشتركيْن في ظل الظروف التي سادت في فلسطين قبل سنة 1947، واجهت تحديات جمّة وهي تجربة محكوم عليها بالإحباط، لأن العمل المشترك ممكن عندما تكون هناك قضية مشتركة وإحساس بالشراكة فيها. فوحدة القضية تعني وحدة الأهداف والمصالح والنضال في سبيلها. وهذا الأساس لم يتوفر في حالة فلسطين. ناهيك عن أنه لا بد أن وجود عوامل توحيد أخرى مثل التاريخ واللغة والتعايش المشترك وغيرها. وهذا ايضاً ما لم يكن في فلسطين. ولعل التجربة منذ 1947 وحتى يومنا هذا تؤكد غياب قاعدة عمل مشترك وخاصة كلما تقادم الزمن.

5) ‏أخطأ الشيوعيون في دراسة الواقع الملموس في فلسطين دراسة علمية ما أدّى إلى نتائج مضللة والسقوط في توقعات خاطئة وغير قابلة للتحقيق.

كان الشيوعيون في فلسطين يتوقعون ويأملون بالتحام صفوفهم حول موقف موحد من فلسطين ومستقبلها والصهيونية والمشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، مع أنهم كانوا يدركون الطبيعة الاستيطانية للهجرة اليهودية وارتباطها بالاحتلال البريطاني والمشروع الصهيوني في فلسطين. وفي هذا الصدد، يرى ناجي علوش:

– أن “الحزب الشيوعي كان يدرك بالتحليل والمعلومات كما رأينا حقيقة أن العداء العربي ليس ضد اليهود، وإنما هو ضد الصهيونية السند الرئيسي للإمبريالية، وكان يدرك أن الهجرة رجعية بطبيعتها، وأن أكثرية المهاجرين كوادر صهيونية مسيسة، جيء بها لتحقيق أهداف محددة”.

– ولذلك، وفق ما يراه علوش، “وقفت الحركة الشيوعية في فلسطين في هذه المرحلة ضد الهجرة وضد انتزاع الأراضي من الفلاحين العرب. كما وقفت ضد الدولة الصهيونية، وقامت بفضح التحالف البريطاني – الصهيوني، وإن كان موقفها من الحركة الوطنية العربية قد مرّ بتغيرات أشرنا إليها”.[2]

– “إلاّ انهم لم يتوقعوا اطلاقاً … أن لا يخرج منها رافد يمد الثورة الشعبية بقوته. وكانوا كلما توقعوا جاءت الأيام لتثبت عقم توقعاتهم. ومع ذلك ظلوا يتوقعون … إلا أن الواقع الملموس حكم على كل توقعاتهم بل بطلان حين بدأ الصداع سنة 1947”.[3] فالمستوطنات الرأسمالية البيضاء، لا تولد حركات ثورية، وإن انضم بعض الأفراد أو بعض الشراذم إلى الحركة الثورية. وهذا ينطبق على الكيان الصهيوني في فلسطين وغيره من المستوطنات الرأسمالية البيضاء.

– هنا تبرز مسألة هامة لا يمكن اغفالها وهي: إذا كان المستوطنون الغزاة قد قدموا إلى فلسطين ضمن مشروع استيطانها وإقامة كيان صهيوني فيها، وأن أكثرية المستوطنين كانوا صهاينة، فإن الأقلية “غير صهيونية”، أو تلك التي عارضت الصهيونية، والتي أتت هي أيضاً ضمن مشروع الاستيطان ذاته، لن تناضل مع الفلسطينيين في تحرير بلادهم وبناء وطنهم المستقل. وعليه، يكون السؤال: كيف اطمئن الشيوعيون الفلسطينيون للعمل السياسي المشترك مع المستوطنين الغزاة؟ وهل خُدعوا بالغطاء الأيديولوجي؟

6) فلسطين في عمقها العربي والعروبي: أخفق كثيرون من الشيوعيين الفلسطينيين والعرب في فهمهم وموقفهم من البعد العربي والعروبي للمسألة الفلسطينية ومركزيتها في حياة ونضال الشعوب العربية:

– فهم العلاقة بين الأمة العربية وقضية فلسطين ك “القضية المركزية للأمة العربية”؛

– فهم الاستيطان والاحتلال الصهيوني لفلسطين في بعده العربي كمدخل للهيمنة الإمبريالية على مجمل الوطن العربي. أي أنهم أخفقوا في فهم حقيقة أن المشروع الصهيوني – الإمبريالي يشكّل رأس الحرب الإمبريالية لا ضد فلسطين فحسب، بل ضد الأمة العربية بأسرها من أجل الهيمنة على شعوبها وثرواتها.

7) الموقف من الوطن: يبدو أن هذه المسألة تشكّل مربط الفرس في معرض نقدنا لموقف الشيوعيين في فلسطين من قرار التقسيم. ففي تناول المسألة الوطنية – الموقف من الوطن والدفاع عنه – ينتاب المرء احساس بأنه يكرر طرح معضلة طالما اعتبرت بديهية في حياة الشعوب وتاريخها. فالدفاع عن الوطن واجب وحق طبيعي في آن، أي أن لكل إنسان حق في وطنه وواجب في الوفاء له والذود عنه. وفضلاً عن كون هذا الواجب فردياً، فهو أيضاً جمعي لكافة المواطنين. وهكذا، وبفضل كفاح الإنسان نشأت الأمم والشعوب عبر التاريخ. وعليه، يكون السؤال من هذا المنظور، أين وقف الشيوعيون من تقسيم فلسطين (تقسيم الوطن) والاعتراف بالكيان الصهيوني (التخلي عن الوطن والتنازل عن الحقوق الوطنية والتاريخية)؟

8) إذا كانت سياسيات وقرارات الدول العظمى تقوم على أساس مصالحها، وهذا صحيح، فإنه يجوز لنا في هذا السياق أن نقارب الموقف السوفييتي وتبعية الشيوعيين العرب له من خلال سؤالين:

أ) الأول: هل تجوز محاكمة مواقف الاتحاد السوفييتي، صاحب الثورة البلشفية وأول تجربة اشتراكية في التاريخ المعاصر قامت على أسس الماركسية – اللينينية ومبادئ الدفاع عن الشعوب المستعمَرة، هل تجوز محاكمتها على أساس المصالح وحسب، وبمعزل عن المبادئ والأيديولوجيا والوفاء لماركس ولينين؟

في ثنايا الموقف السوفييتي من تقسيم فلسطين، نلحظ مفارقة لافتة وهي الانتصار السوفييتي الأسطوري على ألمانيا النازية وجسامة التضحيات البشرية والمادية التي قدمتها الشعوب السوفييتية في تلك الحرب: ففي حين تمسكت هذه الشعوب وقيادتها بالوفاء لوطنها والذود عنه، نرى أن الاتحاد السوفييتي ينكر على الشعب الفلسطيني الحق ذاته.[4]

هل نحن هنا بصدد ازدواجية الموقف وحسب، أم أمام تخلي الدولة والحزب السوفييتيين، عن مبادئ الماركسية ودعم نضال الشعوب نحو التحرر والاستقلال وفي مناهضة المشاريع والسياسات الإمبريالية.

ب) إذا كان سؤالنا الأول يطرح المسألة من منظور “مصالح الدول العظمى”، فإنه يترتب على السؤال الثاني أن يكون: وماذا عن مواقف الأحزاب الشيوعية العربية وغيرها من القوى اليسارية والقومية والتقدمية ومسؤوليتها حيال وطنها والدفاع عنه، ومن قرار تقسيم فلسطين والاعتراف بالكيان الصهيوني؟

ج) هنا نجد أنفسنا أمام حقيقة تكررت مراتٍ عديدة في تاريخنا وتاريخ الشعوب، وهي أن الوفاء للوطن المحتل وتحريره، هي مهمتنا نحن أولاً وأخيراً، مهمة شعوبنا وأحزابنا وقوانا السياسة والاجتماعية، وهنا تكون القوى الشيوعية العربية مطالبة بالوقوف دفاعاً عن الوطن والحقوق الوطنية، كما يتوجب على القوى الشيوعية العالمية الوقوف معنا في هذا الكفاح لأن تحرر الأمم واجب كافة القوى الثورية في العالم. أليس هذا هو جوهر الأممية! وهذا يأخذنا إلى سؤال العلاقة مع الحلفاء والأصدقاء (السوفييت وغيرهم) وضوابطها: فليس من واجب هؤلاء القيام بالدفاع عن وطننا وتحريره عوضاً عنا، ولا أن يخوضوا معركتنا بدلاً منا، بل جلّ ما يمكن أن يقدموه هو الدعم والمساندة لنضالنا.

التاريخ حافل بالوقائع الجسيمة والمواقف الخاطئة في حياة الشعوب، ولكن الماضي لا ينقضي بل يستمر في تداعياته ومفاعيلها. وتاريخ فلسطين أكبر دليل على ما نقول. وهنا تكمن خطورة تقييم الأحداث والصراعات الكبيرة والتناحرية مثل الصراع العربي – الصهيوني، والحكم عليها من خلال حدث واحد أو منعزل، او أحداث ووقائع متناثرة. من هنا تتأتى ضرورة الدراسة النقدية لمثل هذا الحدث كي يتسنى الحكم عليه بأسبابه ونتائجه: ما الذي تسبب به وما هي نتائجه؟

من الواضح مما أتينا عليه في هذه الدراسة، أن قرار تقسيم فلسطين كان شائكاً ومعقداً، شأنه شأن العديد من أبعاد وجوانب القضية الفلسطينية. وعلى الرغم من هذه التعقيدات، فإننا نأمل أننا وفقنا في الإضاءة على خطورة تقسيم فلسطين، ومحاولة تبسيط هذه التعقيدات بعيداً عن المبالغة أو الفذلكة السياسية واللغوية. وفي هذا عمدنا إلى أن نقارب الموقف السوفييتي من الجوانب الأيديولوجية والتاريخية والجيو- إستراتيجية، وإن غصنا أحياناً في بعض التفاصيل، فقد حرصنا على أن يكون ذلك بقدر ما تستدعيه الحاجة الموضوعية.

هذه الكتابة متحيزة لقضيتين لا لبس فيهما من المنظور العروبي، وهي تنطلق منهما لتعود وترتكز عليهما:

الأولى: عروبة فلسطين ورفض قرار تقسيم فلسطين والاعتراف بالكيان الصهيوني على أرضها؛

والثانية: ارتباط تحرير فلسطين ارتباطاً حتمياً بالمشروع النهضوي العروبي وبالنضال من أجل النهوض والتنمية والوحدة العربية.

وعليه انطلقنا في معالجة تقسيم فلسطين من مركزية هاتين القضيتين، سواء على مستوى مصالح الشعب الفلسطيني والأمة العربية، أو مستوى موقف الأحزاب الشيوعية العربية التي حاكت في موقفها من هذا القرار موقف الاتحاد السوفييتي دون مراعاة لمصالح شعوبها الوطنية والقومية.

فإذا كان لنا أن نبرر البراغماتية السوفييتية على أرضية مصالحها كدولة عظمى، فكيف لنا أن نبرر تبعية الأحزاب الشيوعية الفلسطينية والعربية في القبول بقرار تقسيم فلسطين والاعتراف بالكيان الصهيوني واحتلاله ل 78% من فلسطين عام 1948!

ومن هنا يجوز لنا أن نتساءل: لماذا لم تقل هذه الأحزاب إن هذه الأرض لنا وهي وطننا ولن نتنازل عن شبرٍ منها؟

يأخذنا هذا السؤال إلى جذر الخلل الفكري والسياسي والذي يكمن في الموقف من المسألة الوطنية/القومية: الوفاء للوطن والدفاع عنه، وهو سؤال تعرف أغلبيتنا الإجابة عليه. ولكن رغم مرور ما ينوف على سبعة عقود، لا يزال كثير من الأحزاب والتنظيمات الشيوعية والاشتراكية واليسارية التي قبلت بهذا القرار، لا يزال يلتزم الصمت، فلا تراجع ولا نقد ذاتي أو اعتذار عن مثل هذا الخطأ التاريخي.

في تبرير الموقف السوفييتي ومعارضتهم لنقده، قال كثيرون من فلسطينيين وعرب وغيرهم، ولا يزالوا يكررون مقولتهم، إنه كان يتوجب على العرب التحلي بالبراغماتية والحصافة السياسية والقبول بقرار التقسيم.

فماذا لو قبلنا به؟

لو وافقنا على قرار التقسيم، لكنّا تنازلنا عن وطننا ومنحنا الكيان الصهيوني شرعية استيطانه واحتلاله لفلسطين وإقامة “دولته”، كي يتوغل في اقتلاع المزيد من أبناء شعبنا والتهام أرضنا وإخلاء الوطن من سكانه الأصليين وتغيير الجغرافيا والديمغرافيا، وصولاً إلى هيمنته كأداة للإمبريالية الرأسمالية على مقومات الوطن العربي وشعوبه.

https://kanaanonline.org/2022/10/27/%d9%85%d9%84%d8%a7%d8%ad%d8%b8%d8%a9-%d9%85%d9%86-%d9%83%d9%86%d8%b9%d8%a7%d9%86-3/embed/#?secret=X8X0XNnTbV#?secret=q6EyIbUmJP


[1] راجع مقالة عصام مخول: “قرار التقسيم عصبة التحرر الوطني – وطريق فلسطين الى الحرية”، العدد 68 من “قضايا إسرائيلية: محور خاص عن الاستيطان الصهيوني وتاريخه وواقعه”، ص 121.

[2] ناجي علوش، “الحركة الوطنية الفلسطينية أمام اليهود والصهيونية 1882- 1948″، ص 286-287.

[3] ناجي علوش، المرجع السابق، ص 269-270.

[4] بعد مضي ثمانية عقود من هذا الانتصار السوفييتي، أكّد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطابه بمناسبة ذكرى معركة ستالينغراد على التزام الشعب بوطنه والدفاع عنه قائلاً: “لمدة 200 يوم، بالقرب من ستالينغراد، في شوارع المدينة الأسطورية المدمرة، قاتل جيشان حتى الموت، وانتصر الجيش الذي اتضح أنه يتمتع بروح معنوية أقوى. لا يمكن فهم وتفسير المقاومة الشرسة، التي تتجاوز القدرات البشرية أحيانًا، لمقاتلينا وقادتنا إلا من خلال إخلاصهم للوطن الأم، وهو اعتقاد راسخ ومطلق بأن الحقيقة بجانبنا. الاستعداد من أجل الوطن، من أجل الحقيقة، للذهاب حتى النهاية، لفعل المستحيل كان ولا يزال في دمنا، في شخصية شعبنا متعدد الجنسيات – كانت هي التي أطاحت بالنازية”. أنظر خطاب بوتين في ستالينغراد، تعريب د. زياد الزبيدي، 3 فبراير 2023، موقع “كنعان”، على الرابط التالي:

https://kanaanonline.org/2023/02/05/%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%b0%d9%83%d8%b1%d9%89-%d8%a7%d9%84%d8%ab%d9%85%d8%a7%d9%86%d9%8a%d9%86-%d9%84%d8%a7%d9%86%d8%aa%d8%b5%d8%a7%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d9%82%d9%88%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%b3/embed/#?secret=thths1S5u1#?secret=DgIJfzqFrD