يشكل ظهور وانتشار جماعات الدين السياسي واحدة من الأسلحة الفتاكة بيد الامبريالية، التي طوَّعت المؤسسة الدينية لخدمة الرأسمالية وتكريس علاقات إنتاجها، واستخدامها في إجهاض تطلعات الشعوب واحتجاز تطورها وتفتيت وحدتها بإذكاء النعرات الدينية أو المذهبية أو الطائفية بحسب شروط البلد المستهدف، وتفكيك الأوطان أو تخريبها من الداخل وفق طروحات “الفوضى الخلاقة” التي صاغتها وطبقتها الامبريالية الأمريكية؛ وبالموازاة مع ذلك لا تألوا جهدا في تخدير وعي الجماهير بفتاوى نكوصية تنشر جراثيم وأوبئة من قبيل: “جهاد النكاح”…!(1) إن الأدوار الخطيرة التي تضطلع بها هذه الجماعات لا سيما في العقد الأخير، تفرض علينا ضرورة دراستها لأهميتها ولفهمها ومواجهتها، وهذا لن يتأتى إلا بربطها بالواقع المادي الاجتماعي والتاريخي الذي هو الشرط المحدد لحركة انبنائها وسيرورتها، فما هو المحتوى الرجعي لهذه الجماعات؟ وما هي ارتباطاتها السياسية والتنظيمية وغطاؤها الاديولوجي؟

تـمـهـيــد :

ليس هناك من توصيف أو تعريف وحيد لجماعات الدين السياسي التي تتخذ من الإسلام شعارا لها، فهي وإن كانت في مجملها تُسبغ على نفسها بصيغة الجمع صفة “الإسلاميين” أو “الصحوة الإسلامية”… فإنها ما أن يقع افتراق أو اصطراع بينها حتى يزعم كل منها لنفسه أنه يمثل “الإسلام الحقيقي”؛ وهنا نجد العديد من الدارسين لهذه الظاهرة ينسفون بالتحليل الخلط والتضليل الذي تتضمنه هذه التسميات. فـ”الصحوة الإسلامية” تستوجب التساؤل:» هل هي صحوة كمية، أم كيفية؟ (…) هل ازدياد العدد وحده صحوة، أم أن الصحوة الحقيقية هي ارتفاع مستوى الفكر وقدرته على إثبات مرونته ومواجهته للمشاكل المتجددة في عالم سريع التعثر؟ وإذا كان المضمون الحقيقي لفكر معظم الجماعات الإسلامية المعاصرة أشد تخلفا بكثير مما كانت عليه أفكار الجماعات المناظرة لها منذ نصف قرن، أيكون من حقنا أن نسمي هذا صحوة لمجرد أن أعداداً متزايدة تنضم إلى الموكب مطأطئة الرأس، لا يدفعها سوى الإذعان والطاعة فحسب؟».(2) فتسمية إسلامي تشبه رسم تجاري في ملكية وكيل حصري يُخضِع الدين والعقيدة بما يخدم أهدافه السياسية، ويجعل منها أنجع وسيلة لتعبئة واستقطاب وتهييج الأتباع. غير أن »ما يقدم لنا بصفته “فكرا إسلاميا” لا يستحق التسمية، فليس له طابع فكر ديني صحيح على نمط لاهوت التحرير المسيحي. و”الهوية الإسلامية” التي تكوِّن جوهر هذا الفكر المزعوم لا تعدو كونها احترام الشريعة والممارسات الطقوسية لا غير. لذلك أعتقد أن الوصف الصحيح لهذه التيارات هو اعتبارها “إسلاما سياسيا”، بمعنى توظيف سياسي للانتماء الإسلامي الشكلي، وليس فكرا إسلاميا».(3)  

إن التدقيق في التسمية والصفة المطابقة للحقيقة الفعلية لهذه الجماعات هو ضرورة منهجية، من شأنها أن تساعد على فهم طبيعتها وارتباطاتها ومنطلقاتها وأهدافها وأسلوب عملها. فـ»الإسلامي صفة، والصفة تعني تمييز الشيء عما عداه، وإذا أضفت إليها أل فهذا يعني [أنها] تستغرق الشيء كله، فإذا قلت الفلسطينيين فهذا يعني أن غيرهم ليسوا كذلك. (…) لهذا أنا أقول التأسلم لأن التاء إذا أضيفت إلى الفعل وكانت في آخره صارت متميزا وإذا كانت في أوله صارت علامة، كأن تقول: تأقلما، تأرجح، تأمرك، أي تظاهر كأنه أمريكي ولكنه ليس كذلك. فهؤلاء يتظاهرون بأنهم صحيح الإسلام فليس أمامنا إلا أن نكون معهم أو نكون كفرة».(4) نحن هنا بصدد جماعات سياسية تُخضع الإسلام للتمويه على توجهاتها الرجعية ولفرض سطوتها ومصادرتها لأي معارضة ضدها، لذا »من الظلم أن ننعت مثل هذا الفكر بأنه إسلامي. فدرءاً لكل التباس، وحتى لا نلحق بالفكر الإسلامي ظلماً يرفضه، ونرفضه، وحرصاً منا على دقيق الكلام، رأينا من الأفضل تمييز ذلك الفكر الذي ننقد بأنه متأسلم، لا إسلامي».(5) لأن هذا الفكر الظلامي »يظلم، بتأسلمه، الإسلام والفكر معاً».(6) وجذير بالذكر أن التوظيف والاستخدام السياسي الرجعي للدين لصالح سلطة رأس المال ليس حصراً في الدين الإسلامي، بل له غرار في المسيحية كما يتجلى بشكل أكبر مع المحافظية الجديدة في فترة حكم جورج بوش الصغير وحاليا في فترة حكم دونالد ترامب، وحتى إن الحركة الصهيونية هي «الأكثر استخداماً للدين في العصر الحديث. فالكيان هو أول دولة في العصر الحديث تسمي نفسها باسم الدين وتحصر سكانها في اليهود كدين وتحاول توليد أمة من الدين رغم أن مستوطنيها مستجلبون من عشرات القوميات. (…) ناهيك عن الزعم المعروف بأن “اليهود شعب الله المختار”.»(7) إن قوى الدين السياسي وهي تتشارك في توظيف الدين لأهداف سياسية، إنما تخدم في نهاية التحليل مصالح طبقية. وهذه الظاهرة «الدين السياسي أو تسييس الدين متلازمة مع الأزمات الاقتصادية على صعيد عالمي».(8) 

1) في الملابسات الاجتماعية والارتباطات السياسية:

ارتبط ظهور ونشوء جماعات الدين السياسي الإسلامي المعاصرة بمرحلة دخل فيها نمط الانتاج الرأسمالي طور أزمته وانحطاطه، فكانت إفرازا لهذا الانحطاط وأحد تجلياته في البنيات الاجتماعية التبعية؛ ومع احتدام التناقضات الاقتصادية والسياسية للرأسمالية الامبريالية وتفاقم أزمتها واستفحال حروبها الاستعمارية، وجدت في هذه الحركات أفضل خادم ومنفذ لمشاريعها التوسعية في إخضاع الشعوب لسيطرتها ونهب ثرواتها. فكان »الإسلام السياسي من فعل الامبريالية الكامل مدعوما بالطبع من قوى الرجعية الظلامية ومن الطبقات الكومبرادورية التابعة له».(9) ولقد جرت أولى محاولات »اختراع الإسلام السياسي الحديث في الهند على يد المستشرقين لخدمة السلطة البريطانية، ثم تبناه وبشر به المودودي الباكستاني بكامله. وكان الهدف هو (إثبات) أن المؤمن بالإسلام لا يستطيع العيش في دولة غير إسلامية -وبذلك يمهدون لتقسيم البلاد- لأن الإسلام لا يعترف بالفصل بين الدين والدولة حسب زعمهم…»(10) 

وعلى ذات المنوال تأسست جماعة (الإخوان المسلمون) بمصر في 1928 بإيعاز ودعم من الاحتلال البريطاني، لمواجهة المد الوطني الاستقلالي الذي عبرت عنه انتفاضات 1919 بقيادة حزب الوفد. ولم يشذ عن هذه القاعدة في الارتباط العضوي بالامبريالية أيٌّ من قوى الدين السياسي الإسلامي سواء كتنظيمات أو حيثما وصلت إلى السلطة كأنظمة حاكمة. فبدءا من حرب الإبادة التي ارتكبوها ضد مئات الآلاف من أعضاء الحزب الشيوعي الإندونيسي بين سنوات 1965 و1967، مرورا بـ”المجاهدين” الذين جندتهم المخابرات الأمريكية CIA لإسقاط دولة أفغانستان ونظام حكمها الوطني بقيادة نجيب الله، ثم نظام ضياء الحق العميل بباكستان، وصولا إلى السودان مع (الجبهة الإسلامية القومية)، دون إغفال الصومال الذي تقاسمه “المجاهدون”، وكذلك تنصيب (أحزاب إسلامية) ضمن تركيبة “مجلس الحكم” الذي عينه (بريمر) في ظل الغزو والاحتلال الأمريكي للعراق في 2003…؛ ففي هذه التجارب وغيرها قدمت جماعات الدين السياسي خدمات هائلة للامريالية في تسهيل احتلالها للأوطان وتمزيق مجتمعاتها والنكوص بها وتكريس التبعية، لينتهي بهم المطاف إلى عملاء بشكل مباشر وسافر في خدمة العدو الصهيوني.

ففي مصر قام (محمد مرسي) الإخواني بصفته رئيسا للجمهورية المصرية قبل الإطاحة به بتعيين سفير يمثل الدولة لدى الكيان الصهيوني، حيث خاطب السفاح (شيمون بيريز) في رسالة تحمل تاريخ 19 يوليو 2012 استهلها بـ: »عزيزي وصديقي العظيم.. لما لي من شديد الرغبة في أن أطور علاقات المحبة التي تربط لحسن الحظ بلدينا…»، ليختمها بالقول: »كان لي الشرف بأن أعرب لفخامتكم عما أتمناه لشخصكم من السعادة، ولبلادكم من الرغد. صديقكم الوفي محمد مرسي«. وجدير بالإشارة أنه كان لـ(حركة النور) في مصر فتوى أعلنها لسان حالهم أنهم لا يرون مانعا في الجلوس مع “إسرائيل”، وهم والإخوان لم يتورعوا حين كانوا في سدة الحكم عن تأكيد التزامهم باتفاقية العار والخيانة “كامب ديفيد”. حتى أن مرجعا إخوانيا (يوسف القرضاوي) نادى ما بين قاعدتي (السيلية) و(العيديد) في مستعمرة قطر، إلى “الجهاد” في ليبيا وسوريا تحت راية وقيادة حلف الناتو، ووجه نداء متضرعاً إلى الامبريالية الأمريكية “أن تقف وقفة لله في سوريا”!

وفي تركيا التي يقودها نظام إخواني (حزب العدالة والتنمية) الفاشي تعززت علاقتها مع العدو الصهيوني على جميع المستويات اقتصاديا، سياسيا، عسكريا واستخباراتيا، ناهيك عن دورها في الحلف الاستعماري (الناتو) سيما في غزو وتدمير واحتلال كل من: ليبيا وسوريا وقبلهما أفغانستان… أما في القطر المغربي فحزب (العدالة والتنمية) المتأسلم استقبل في مؤتمره “الوطني” السابع المنعقد في 2012، الصهيوني “عوفير برانشتاين” الذي كان مستشارا للمجرم “إسحاق رابين”، وهذا الحزب الظلامي لم يكتف بهذا الحد، إنما إمعانا في الخيانة والعمالة قام بتوشيح هذا الصهيوني بدرع الحزب. كما أن أحد أقطابه وعمدته على مدينة مكناس ويدعى (أبو بكر بلكورة)، اعترف بااقترافه زيارة الأراضي الفلسطينية المحتلة قبل عقود بذريعة «من أجل الصلاة في القدس»، والأخطر في اعترافه بالتطبيع قوله أنه «زار القدس (…) ولم يقم بزيارة إسرائيل».(11) كما لو أن الأراضي الفلسطينية التي اغتصبها الكيان اللقيط من غير القدس  ويقيم عليها دولته لا تعد احتلالا، ودون أن يوضح إن كان دخل “للصلاة في القدس” من بوابة مطار “بنغوريون” وأي خاتم وُضع على جواز سفره، وما إن كانت أسلحة جنود العدو التي وفرت له الحماية لحظتها كانت تقطر بالدم العربي الفلسطيني المراق! لقد أصدر قيادي من نفس الحزب (أحمد الريسوني) الرئيس الحالي خلفا لـ(يوسف القرضاوي) لما يسمى “الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين”، وهو من مؤسسي حركة “التوحيد والإصلاح” وحزب “العدالة والتنمية” الفرع المحلي لـ”الإخوان المسلمين”، أصدر فتوى دعا فيها يوم السبت 10 غشت 2019 إلى زيارة القدس المحتلة واعتبرها: “جائزة ومطلوبة إذا كانت بنية دعم المقدسيين المرابطين وعمارتها بأفواج المسلمين”، وذلك بأن “يرابطوا ولو لساعات في المسجد الأقصى إلى جانب الفلسطينيين لدعمهم”. كما لم يفته حث الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948 للمشاركة في مؤسسات العدو: “الكنيسيت” لأن “مبدأ المشاركة والحضور والتأثير هو الأصل إلا إذا تبين أنه لا يحقق شيئا”، مستشهدا بأن “الفلسطينيين بما فيهم الحركة الإسلامية يشاركون في الانتخابات”! 

 أما الجماعات “الجهادية” كـ(جبهة النصرة، داعش، أنصار بيت المقدس، بوكو حرام…) فهي “تجاهد” في كل مكان وفي أي اتجاه ترسمه لها الامبريالية في تمزيق الأوطان وتعميم القتل الجماعي ضد الشعوب المفقرة ونشر الخراب دون أن تطلق رصاصة واحدة ضد الكيان الصهيوني. كيف لا يكون هذا دِين ودَيْدَن هذه جماعات الدين السياسي وأحد أبرز أقطابها (محمد متولي شعراوي) سبق أن أعلن:  أنه سجد حمدا لله وشكرا على هزيمة جمال عبد الناصر في حزيران 1967 أمام الكيان الصهيوني، لأنه »إذا ما انتصرنا لكنا قد فُتنَّا في ديننا من الشيوعية».(12) وآلية القياس عنده أن مصر كان على رأسها شيوعي والشيوعية هي الالحاد، أما “إسرائيل” فهي من أهل الكتاب، فانتصر الإيمان على الالحاد! 

الارتباط بالامبريالية ثم العمالة للكيان الصهيوني، ينسجم تمام الإنسجام مع ماضي هذه الجماعات الظلامية في انفصالها التام عن الكفاحات التحريرية التي خاضتها الشعوب ضد الاستعمار القديم والجديد، إذ »لا نجد في تاريخ السلفية السنية المعاصرة قصة نضال وطني كالذي خاضته الجماهير في معظم البلدان العربية بقيادة العلمانيين».(13) ومفيد في هذا السياق استحضار تصريح لـ(عبد السلام ياسين) مرشد جماعة “العدل والإحسان” يكشف من خلاله كيف أنه: »في 1965 عِشتُ ما قد نطلق عليه إسم “أزمة روحية”، صحوة عفوية، (…) عندما كان عمري 38 سنة، مررت فجأة بهذه الأزمة. (…) لكي أنطلق في البحث عن الله».(14) هكذا نجد عبد السلام ياسين، كغيره من متأسلمي المغرب، الذي هو من مواليد 1928 لم ينخرط البتة في نضالات الحركة الوطنية ضد الاستعمار ولم يشارك لا في المقاومة المسلحة ولا في جيش التحرير، والأكثر من ذلك أنه في الوقت الذي كانت فيه الجماهير الكادحة تسطر بالدم القاني ومئات الشهداء واحدة من أعظم ملاحم الصمود في وجه قمع النظام الملكي الفاشي في انتفاضة 23 مارس 1965، كان عبد السلام ياسين منشغلا بأزمته الروحية ومأخوذا بالبحث عن خلاصه الفردي! 

أ‌-  ظهرت الجماعات الظلامية المتأسلمة في المغرب بشكل متأخر زمنيا عن شقيقاتها في المشرق العربي، إذ تعتبر (الشبيبة الإسلامية) التي تأسست في 1969 وحصلت على الاعتراف القانوني في نونبر 1972 بمثابة الجماعة الأصل التي سيتفرع عنها أغلب الجماعات. وبات مؤكدا أن هذه الجماعة عجنتها وصاغتها مخابرات النظام الحاكم لمواجهة تصاعد ومد اليسار الثوري من جهة، ولأجل احتواء تناقضات النظام لا سيما تداعيات أزمته التي تفجرت مع الانقلابين العسكريين في (1971 و1972)؛ بالاضافة إلى عوامل ومؤثرات خارجية لعل أبرزها الطفرة النفطية التي جعلت أنظمة عميلة كالنظام السعودي يوظف عائدات النفط الهائلة في نشر ما بات يصطلح عليه بإسلام البترو-CIA، كوصفة سياسية وإديولوجية لضرب وإجهاض كل توجه تحرري ديمقراطي وتقدمي، واستئصال كل فكر علمي عقلاني أو فن وإبداع متنور. كما استخدمت الدول النفطية ما تحصلت عليه من ريع في تغطية عجز الميزان التجاري للدول غير النفطية في ما أُسمي “دول الفائض ودول العجز” لكن تلك الأموال لم تُستخدم للتنمية بل لتثبيت الأنظمة التابعة. في هذا السياق ظهرت (الشبيبة الإسلامية) التي ركزت تعبئتها ضد المعارضين السياسيين للنظام الرجعي تحت ستار: »محاربة الالحاد الذي يبثه اليسار الماركسي».(15) فنفذت عدة عمليات دموية ضد يساريين كالاعتداء على عبد الرحيم المنياوي الأستاذ بثانوية مولاي عبد الله بالدار البيضاء سنة 1974، لتتوج إجرامها باغتيال المناضل الشهيد عمر بنجلون في 18 دجنبر 1975. لقد وفرت السلطات الحاكمة لأذنابها من شيوخ الجماعة الإجرامية (عبد الكريم مطيع، عبد العزيز النعماني…) الغطاء الأمني والسياسي حيث تم إيواء بعضهم في مزرعة لـ(عبد الكريم الخطيب) قبل أن يتم تسفيرهم إلى السعودية، وكان ذلك أولى حلقات توظيف نظام الحكم لصنيعته من الجماعات الظلامية في الاغتيالات السياسية لمعارضيه؛ ومعلوم أن الشهيد عمر بنجلون تعرض للاعتقال والتعذيب عدة مرات وصدر في حقه حكم بالإعدام في مارس 1964 ونجا منه، لتكون فيما بعد الجماعة الظلامية الأداة المنفذة له.

بيد أن (الشبيبة الإسلامية) مع غياب مرشدها عبد الكريم مطيع وانفضاح مراميها أخذت في التصدع والتشظي مع بداية الثمانينات، فأسس مجموعة من المنشقين (جمعية الجماعة الإسلامية) في 1983 يرأسها (عبد الإله بنكيران) الذي أصبح رئيسا للحكومة فيما بعد -مكافأة له على إجرامه- والذي وضح أهداف جماعته: »أنه آن الأوان لنظهر للناس على حقيقتنا ونمر لمرحلة الهجوم بعد مرحلة الدفاع، فنكشف الشيوعيين الملاحدة المتسترين بالدفاع عن مصالح الجماهير الكادحة، والليبراليين الفجار المتسترين بحقوق الإنسان ومعاني الحرية…».(16) وفي رسالة يتملق فيها وزير الداخلية آنذاك (ادريس البصري) مؤرخة بتاريخ 17 مارس 1986 من بين ما جاء فيها: »…وجدت هذه الدعوة في تلك الأيام [يقصد فترة تأسيس جماعته] إقبالا كبيرا من الشباب، وخصوصا بعد أن تصدى الشباب المسلم الملتزم للشباب اليساري في الثانويات والجامعات«، ثم يتوسل وزير الداخلية فيقول: »وإننا نأمل أن تتداركنا عناية الله على يدكم (…)، ومن الواجب في رأينا أن يقوم بين المسؤولين والدعاة تعاون قوي لما فيه خير بلدنا».(17) نفس الجماعة ستغير اسمها في 1992 ليصبح (حركة الاصلاح والتجديد) ثم اسم (التوحيد والاصلاح) ابتداء من 1996 بعد اندماج (رابطة المستقبل الإسلامي) فيها، لتتخذ في نفس السنة من حزب (الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية) واجهتها السياسية؛ والذي ينحدر من الحزب اليميني الفاشي (الحركة الشعبية) الذي أسسه في 1958 المحجوبي أحرضان الذي كان ضابطا في جيش الاحتلال الفرنسي، وعبد الكريم الخطيب الذي سبق الإشارة أعلاه إلى ضلوعه في عملية اغتيال الشهيد عمر بنجلون، كما أنهما معاً كانا من أبرز مؤسسي (جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية) المعروفة اختصارا بـ”فديك”Front de défense des institutions constitutionnelles في مارس 1963 -وهي جبهة يمينية رجعية للدفاع عن النظام الديكتاتوري- وبعد انشقاق (الخطيب) أسس حزب (الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية) في 1967 الذي سيحمل فيما بعد إسم حزب (العدالة والتنمية) ابتداء من 1998.

ب‌- لقد سبقت الإشارة أعلاه إلى أن عبد السلام ياسين شيخ جماعة (العدل والاحسان) لم يستقطبه النضال الوطني لمقاومة الاحتلال الفرنسي والاسباني، كما لم تحركه انتفاضة 23 مارس 1965 التي استشهد فيها مئات الأطفال والشباب والعمال بمدينة الدار البيضاء كي ينخرط في النضال الجماهيري من أجل تحقيق مطالب الشعب في الحرية وتقرير المصير؛ إنما كان منذوراً للبحث عن خلاصه الروحي الفردي، فولى وجهه شطر (الزاوية البوتشيشية) وملازمة شيخها (حمزة بن العباس) لمدة ست سنوات، إلا أن وفاة الشيخ ستجعل المريد في موقع الاختلاف مع الابن (حمزة بن العباس) حول زعامة الزاوية التي حسمت لصالح الابن. فانفصل عبد السلام ياسين ليشق مسارا خاصا به، فخط رسالة إلى الملك بعنوان “الإسلام أو الطوفان” في 1974 وفيها يقدم نصائح للملك (الحسن الثاني) أودع بسببها السجن لثلاث سنوات وستة أشهر. والجدير بالإشارة أن الرسالة تضمنت من بين نصائحه: »… إنك يا حبيبي يا حفيد رسول الله(*) تؤمن بالله واليوم الآخر فدعني أَصدُقك وأنصحك لكي لا تهوى في النار.. تبايع مجلسا منتخبا انتخابا إسلاميا تستشير في أمره رجال الدعوة بعد أن تمنع كل الأحزاب السياسية (كذا)، وتفسح المجال لرجال الدعوة يُفهمون للأمة فتنتها وسبيل خلاصها».(18) إحلال ديكتاتورية مغلفة بالدين “تمنع كل الأحزاب السياسية” ويكون فيها الأمر والنهي لـ”رجال الدعوة” باعتبارهم “أهل الحل والعقد”، هي الدولة الثيوقراطية التي تنشدها كل الجماعات المتأسلمة بشكل سافر أو مضمر لدواعي تاكتيكية، ولها نماذج مطبقة في السودان مع جعفر النميري ثم عمر حسن البشير وحسن الترابي وكذلك سلطة طالبان في أفغانستان… ولعل النموذج الأنصع يتجلى في “الدولة الإسلامية بالعراق والشام” تحت حكم (أمير المؤمنين) أبو بكر البغدادي.

في فبراير 1979 أصدر عبد السلام ياسين مجلة “الجماعة” التي ستكون النواة الأولى لتنظيم سيحمل اسم (أسرة الجماعة) ابتداء من شتنبر 1981، والتي غيرت من اسمها عدة مرات قصد الحصول على الصفة القانونية دون نتيجة، حيث تحولت إلى اسم (جمعية الجماعة) في شتنبر 1982 ثم (جمعية الجماعة الخيرية) ذات الصبغة السياسية في أبريل 1983، لتستقر على (جماعة العدل والاحسان) منذ شتنبر 1987. وقد انخرطت جماعة (العدل والاحسان) على غرار باقي الجماعات الظلامية المتأسلمة والأنظمة الرجعية في تأييد حملة “الجهاد” الذي أوجدته وحركته ووجهته الامبريالية الأمريكية في أفغانستان، إذ أسبغت عليه صبغة دينية مقدسة للتمويه على حقيقته وأهدافه الاقتصادية والسياسية والاديولوجية التي حققتها أمريكا من خلال أدواتها العميلة، تقول: »إن أفغانستان وقضيتها تحتلان من أنفسنا أبرز مكان، فهي حرب العقيدة الإسلامية ضد العقيدة والفكر الشيوعيين، وموقف الحكومات المتخاذلة، يثير في النفس العجب العجاب».(19) وتحت نفس الستار -محاربة الماركسيين والشيوعيين!- شنت ميليشيا (العدل والإحسان) غزوات مدججة بمختلف الأسلحة البيضاء على المواقع الجامعية للفتك بالنقابة الطلابية المكافحة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب ولاستئصال كل فعل نضالي لها، وكان من نتائج هذه الفاشية المتأسلمة إزهاق روحي المناضلين: الشهيد المعطي بوملي في 1991 بالموقع الجامعي بوجدة، والشهيد بنعيسى آيت الجيد في 1993 في موقع فاس ناهيك عن مئات الجرحى؛ وهو الشيء الذي يعكس ويعبر عن حقيقة هذه الجماعات في خدمة وتنفيذ مخططات النظام الحاكم. وجدير بالإشارة أن جماعة (العدل والإحسان) لعبت دور اللغم المزروع في جسم انتفاضة حركة 20 فبراير في 2011، ليتم تفجير صاعقها على يد السفارة الأمريكية بالرباط عندما كانت الجماعة تعقد لقاءات “سرية” ترتب عنها الانسحاب من حركة 20 فبراير في دجنبر 2011. 

“محاربة الشيوعية” و”محاربة الماركسيين”! هذا هو الهدف المركزي ومبرر الوجود للجماعات الظلامية بمختلف تشكيلاتها كما وقفنا أعلاه عند العينة: (أ ثم ب)، وغير خاف أن هذا الشعار/ الهدف صاغته الامبريالية واعتمدته وطبقته جميع الأنظمة والحركات والتوجهات الفاشية والنازية والصهيونية والمتأسلمة… منذ عقود خلت.

ليس صدفة أو اعتباطا الالتقاء والتطابق الحاصل بين الجماعات الظلامية والنظام الديكتاتوري في المغرب، من حيث إضفائها للطابع الديني على مواقفهم وممارستهم السياسية الرجعية، بحيث يجمعون على الخلط وعدم الفصل بين السياسة والدين، ويتنافسون على ترويض الأخير وتكييفه لما يخدم المصالح والأهداف السياسية  لكل طرف منهم. يقول الملك (الحسن الثاني): »الفرق بين الدين والدنيا غير موجود فالحكومة علماء والعلماء حكومة، لأن الدين والدنيا مختلطان، واليوم الذي تفرق فيه دولة إسلامية بين دينها ودنياها، فلنصل عليها صلاة الجنازة مسبقا».(20) ونفس التلفيق تعتمده جماعة (العدل والاحسان) بتأكيدها أنه: »لا تمييز عندنا ولا فرق بين الدين والسياسة».(21) ومن باب الافادة والاحاطة نستحضر المواقف التنويرية التي عبر عنها علي عبد الرازق في 1925 وهو شيخ أزهري مصري، في مواجهة محاولات تنصيب الملك أحمد فؤاد تحت إشراف الاحتلال البريطاني “خليفة للمسلمين”، بعد أن ألغيت الخلافة في تركيا عام 1924 مع إجراءات كمال أتاتورك؛ نقرأ له في هذا الصدد: »التمس بين دفتي المصحف الكريم أثرا ظاهرا أو خفيا لما يريدون أن يعتقدوا من صفة سياسية للدين الإسلامي، ثم التمس ذلك الأثر مبلغ جهدك بين أحاديث النبي (…)، فإنك لن تجد عليها برهانا، إلا ظنا، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا».(22)

لجوء نظام الحكم والحماعات الظلامية إلى التنافس في استغلال الدين كمظهر من مظاهر الاديولوجية هو للتمويه ولطمس حقيقة الصراع الطبقي، وفي خضم هذا التنافس الذي يسعى فيه كل طرف احتكار ما يطلقون عليه “الإسلام الحقيقي” لصالحه تنشأ بينهم تناقضات ثانوية، غير أنها لا تنفي كونهم جميعا يتموضعون في خدمة مشاريع الامبريالية ومصالح الطبقة البرجوازية التبعية، ويقفون إطلاقا ضد كفاح الشعب من عمال وفلاحين صغار في التحرر والاشتراكية. وكعينة لإحدى أوجه هذا التنافس في احتكار استغلال الدين واعتماد فهم معين له، نظمت الدولة تحت إشراف ورعاية “أمير المؤمنين” باعتباره “حامي الحمى والدين”، جامعة صيفية “للصحوة الإسلامية” التي عقدت دورتها الأولى بالدار البيضاء من 28 غشت إلى 3 شتنبر 1990، وكان موضوعها هو: “الصحوة الإسلامية: واقع وآفاق”، كما عقدت دورتها الثانية كذلك بالدار البيضاء من 18 شتنبر إلى 20 شتنبر 1991…؛ وأيضا ما يطلق عليه “الدروس الحسنية الرمضانية” التي ترعاها الدولة طيلة كل شهر رمضان، حيث يشكل منبرا يقدم رموز التأسلم من أنحاء مختلفة من العالم للترويج لنفس الاديولوجية الرجعية، وقس على ذلك خطب الجُمَعِ والأعياد…

بيد أن نظام الحكم ينفرد باحتياط ديني وخزان بشري هائل، يتجلى في إخضاع الكثير من الزوايا له والتي يصل نفوذ بعضها خارج أنحاء البلاد، سيما وأن بعض هذه الزوايا لها تراث في الارتباط بالسلطة الحاكمة كما هو تحالفها مع السلطان المولى يوسف  في العداء والحرب المشتركة التي خاضها وقادها الاحتلال الفرنسي والاسباني لاجهاض مشروع وجمهورية محمد بن عبد الكريم الخطابي (1921 -1925). وإحدى خاصيات هذه الزوايا -على سبيل المثال: الكتانية والبوتشيشية…- راهنا هو إظهر ابتعادها عن الانشغال بالسياسة وانقطاعها إلى الأوراد والأذكار، لكن هذا ليس إلا للتغطية على ارتباطها وتبعيتها وخدمتها للنظام الحاكم في جميع الاجراءات والمواقف والمخططات السياسية وغيرها التي يتخذها، ولعل هذا ما يفسر الهبات المالية والعينية الباهضة التي تمنح لشيوخ هذه الزوايا.

أما صفة “أمير المؤمنين” التي يضفيها النظام الحاكم على رأس هرمه وجعله مركزا للافتاء الديني، فهو يصور نفسه أنه فوق الطبقات ومنزه عن صراعاتها، ويتخذ موقع الحَكَم بين “رعيته” فيما شَجَر بينها. و”أمير المؤمنين” له طابع “مقدس” يستمده من أسطورة نسبه الشريف على عكس “الرعية” التي لا حسب ولا نسب لها، ولا يجمع بين الموقعين إلا ثنائية ضدية: فـ”أمير المؤمنين” مشمول بالجلالة/ المطلق/ المقدس/ النسب الشريف… فيما الشعب يلغى ويصبح مجرد رعية مقرونة بالنسبي/ مدنسة النسب…؛ ألم يتعرض العديد من المناضلين للاعتقال والمحاكمة بتهمة “المس بالمقدسات”؟! و”الرعية” ينوب عنها قسرا “أهل الحل والعقد” أي خدام النظام في تقديم البيعة. »…والأمير الذي ينجح في تشغيل هذا الاجراء يصبح إمام الأمة الإسلامية. وبهذا يتولى السلطة بصفته خليفة الله وظله في الأرض».(23)

إن تنامي وصعود الجماعات الظلامية المتأسلمة ووصولها إلى الحكم في أكثر من بلد بدعم من الإمبريالية، ليست في الحقيقة إلا التجلي الواضح للأزمة البنيوية التي تعيشها البورجوازيات الهجينة في البنيات الاجتماعية الكولونيالية، التي تتوسل كل ما يؤجل موتها المحتوم، وتناقض شعاراتها الزائفة والمزعومة حول الليبرالية والحداثة ونهج العصرنة. مما يفضح انتهازيتها ويؤكد رجعيتها التي هي منها أحد أوجه موقعها المتخلف في قسمة العمل الدولية، وذيليتها للإمبريالية. وتجد تفسيرها كذلك في الأساس المادي للبنية الاجتماعية الكولونيالية، حيث تتعايش أنماط إنتاج ما قبل رأسمالية مع نمط الإنتاج الرأسمالي المشوه والمفروض قسرا، والذي يسمح بإعادة إنتاجها عبر مجموعة من الميكانيزمات الخاصة والآليات المعقدة تعقد التكوين الاجتماعي نفسه، في تمفصلها معه -الأسلوب الرأسمالي- وتحت سيطرته وتدخله ومراقبته هو بالذات، بالشكل، أو بالأحرى، الأشكال التي يحددها لها، وما الجماعات الدينية سوى أحد إفرازاتها الأكثر تعفنا. فالإرهاب الذي يتخذ لبوس الدين من هذه الزاوية ينمو في بيئات متخلفة، تشكل له الامبريالية عامل تخصيب له، إنه “الاستشراق الإرهابي” إذا استعرنا تعبيرا لعادل سمارة. أما قراءاتها وتفسيراتها المتزمتة فليست سوى تعبيرها الإيديولوجي كما ينعكس ويتبدى لوعيها الزائف، فالواقع المقلوب لا ينتج إلا وعيا مقلوبا «فبالإضافة إلى شرور العصر الحالي تبهضنا سلسلة من الشرور الموروثة الناجمة عن بقاء أنماط إنتاج بالية عفا عليها الزمن، مع ما يرافقها بالضرورة من علاقات سياسية واجتماعية تنتمي إلى عصر غابر. إننا لا نعاني من الأحياء بل من الأموات أيضا، فالميت يمسك بتلابيب الحي».(24)

1- مواجهة أي مد ثوري ومحاصرته، وهذا ما صرح به (زيبوكنو برجنسكي) مستشار الأمن القومي الأمريكي في عهد جيمي كارتر، بإعلانه «السلفية الإسلامية أصبحت هي الأداة الإيديولوجية الرئيسية ضد الشيوعية»، مثلما كانت ولازالت الوهابية هي الدرع الإيديولوجي للرجعيات العربية في مواجهة حركة التحرر الوطني.

2- إقامة إمارات دينية شديدة التخلف ممركزة الاستبداد (أمير الجماعة) على أساس طائفي ومذهبي منغلق، تحت يافطة استعادة الخلافة الإسلامية/ النموذج، وأمجادها الغابرة -بمقاييس عصرها- حيث لا تتوانى تحت ذريعة الدفاع عن الدين الإسلامي، وتطبيق شريعته وتنزيل بنود عقيدته (خصوصا عقيدة الولاء والبراء السيئة الذكر) على أرض الواقع، تطبيقا وممارسة لمحاربة الكفر والقضاء على الردة الافتراضيين، وتصفية المخالفين في الرأي، ولا تتورع عن ارتكاب أعمال لا إنسانية وتبرير جرائم بشعة ووحشية. «فالمطلب بالتخلي عن الأوهام، هو المطلب بالتخلي عن الحالة التي تتطلب الأوهام»(25) حسب تعبير ماركس، الذي شخص حالة مشابهة للحالة التي نحن بصدد نقدها في نص رائع من كتابه يقول فيه: «تراهم يلجئون في وجل وسحر، إلى استحضار معطيات الماضي لتخدم مقاصدهم ويستعيرون منها الأسماء والأزياء والشعارات القتالية، كي يمثلوا على مسرح التاريخ مسرحية جديدة في هذا الرداء التنكري الذي اكتسى بجلال القدم وبلغة قديمة مستعارة».(26) كما ونزولا عند رغباتها الذاتية التي تنشطها مجموعة من الاستيهامات المرضية، تتشح بوشاحات “سنية”، ويلبس بعضها مسوحا عثمانية أو مملوكية- ممالكية حتى …إلخ تضيق حينا وتتسع أحيانا، حسب حاجة المنعطف/ النفق المظلم الذي تسير وتتخبط فيه؛ ووفقا للمقاس المفصل من لدن رعاتها الذين يمسكون بخيوط اللعبة جيدا، ويحركونها من وراء الستار. بما ينسجم مع الدور المطلوب منها القيام به، وتماشيا مع المهمة المنوطة بها على بلاط المذبح الإنساني، عبر استعادة سمجة وأكثر دموية لمختلف التجارب التي حكمت سابقا باسم دولة الخلافة الإسلامية. التي خالوها مثالية وذهبية -وهي في حقيقتها لم تكن يوما كذلك- لدرجة بلغت من الإسفاف مبلغا سخيفا وصلت حد إسقاط صفة الاستبداد ودمغة الأوتوقراطية عنها، في قراءة تلفيقية للتاريخ لا يقبلها عقل النظر إلى التاريخ عينه، منزهة إياها من وظيفتها الأساسية كدولة طبقية ذات طبيعة استبدادية تأسست لخدمة الأرستقراطية الحاكمة، وذلك بتجريدها من موضوعيتها التاريخية، وشروطها المادية التي بانتفائها استنفذت مبرر وجودها واستمراريتها. وبالتالي استحالة استعادتها ضمن ظروف وشروط أخرى مغايرة لها تماما في جوهرها وطبيعتها؛ إلا من بعض الاستثناءات والعوارض الهامشية العالقة، التي لا يمكن بأي حال من الأحوال، أن تكون عاملا حاسما في تحقق تلك الاستعادة المستحيلة. التي يرفضها الواقع لعناده الصلب، وتأبى قوانينه الصارمة الانصياع لمثل هذه الرغبات الذاتية والإسقاطات النفسية المتداعية. «فالتاريخ مشطوب من ذهينيتها» كما أعلن الراحل هادي العلوي. وهو ما سبق أن رسخه ابن خلدون بقوله: «ومن الغلط الخفي في التاريخ الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الأعصار ومرور الأيام». لا تماثل، إذن، بين بنيتين اجتماعيتين مختلفتين كليا في أشكال وجودهما ومنحى تطورهما، فلكل واحدة منهما آلياتها الداخلية الخاصة بها وشروطها التاريخية التي تؤمن لها تشكلها، وتحدد بالتالي شكل هيكلها ومحتوى مضمونها ونوعية مسارها، حسب قوانين التاريخ الموضوعية. لا تماثل إلا بعملية ذهنية وقفزات سحرية يتوهمها عقل مثالي غيبي يحاول القفز على الواقع بتجاهل حقيقته المادية، وإرجاع كل شيء إلى جوهر كلي -ميتافيزيقي، لا يطاله التغير والتبدل وإن تبدلت الظروف والأحوال، له القدرة والكمال بالمطلق، لأنه الحقيقة المطلقة، والخير كله، وما دونه الباطل والشر كله (بمعناه الماورائي). به تتعرف الذات المغتربة، بعد جوهرتها وأسطرتها، اعتمادا على منطق التماثل ذاته، على ذاتها، إذ تتماثل بذاتها، وينتهي الأمر بها بعد طول اغتراب، للرجوع إلى أصلها ودينها الذي هي منه الفرع والامتداد؛ به تحيا وتستمد سر البقاء، لتكتمل الدائرة وتنغلق على نفسها في نهاية المطاف انغلاقا محكما، لا يتسرب إليه إلا صدى الماضي المؤسطر، حتى لا تغترب من جديد في بيئة غير بيئتها، بانسلاخها عن دينها وأصالتها وماضيها المجيد كما يسوقه فهمها المغلوط، وقراءتها المشوهة للتاريخ بشكل حدثي مناهض للعقل.

أما الاختلاف فحقيقة مادية موضوعية قائم وموجود بالفعل في صلب الواقع الفيزيقي بأشكال تاريخية متنوعة، لأنه أحد قوانينه الطبيعية والاجتماعية، ولا يمكن إلغاؤه لمجرد الرغبة في ذلك، حتى ولو كانت تحمل في طياتها أهدافا ومرامي نبيلة، وتصدر عن نزوع إنساني صادق «فمادية التاريخ أقوى من تغيبه».(27) كما قال الشهيد المأسوف عليه مهدي عامل. كما أن الشعار الفضفاض والغامض الملامح “الإسلام هو الحل”! يبقى استجداءا بئيسا للماضي الغابر ووسيلة شوهاء للاسترزاق السياسي من منطلق انتهازي محض، لأن الواقع شيء والرغبة الذاتية شيء آخر، وقد عارض قطب التصوف الاجتماعي عبد القادر الجيلي/ الجيلاني هذا التوجه وأوصى بالابتعاد عنه قائلا: «لا تبع الدين بالتين، لا تبع دينك تبين السلاطين والملوك والأغنياء وأكلة الحرام، إذا أكلت بدينك اسود قلبك وكيف لا يسود وأنت تعبد الخلق؟ يا مخذول لو كان في قلبك نور لفرقت بين الحرام والشبهة والمباح، وبين ما يسود قلبك وينوره»؛ ونادى بضرورة مواجهة سلطة الدولة، سلطة الدين، وسلطة المال، مقدما صفات الجمال على صفات الجلال. فالإسلام يمكن أن يكون حلا لحاجيات المؤمنين الروحية ومتطلباتهم النفسية، بعد أن كان في بداياته الأولى عامل بناء مجتمع الدولة على أنقاض مجتمع القبيلة، ولا يمكن أن يكون الآن كغيره من الأديان، حلا، أو مفتاحا سحريا للتناقضات الاقتصادية، السياسية، والاجتماعية، لأن ذلك من اختصاص العلم.

كتب الشهيد حسين مروة يقول أن: «القوى الظلامية …تقف دوما، في كل مراحل التاريخ دون حركة التطور البشري محاولة جهدها أن تلجم قوى التطور وتشل فيها عصب الحياة والحركة، كي تستبقي التاريخ في مرتكز مصالحها الخاصة رغم مناقضاتها لمصالح الشعوب، ورغم أن الشعوب هذه نفسها هي التي تصنع لتلك القوى الظلامية مصالحها بالذات».(28) دقيق هذا التوصيف كما يحيل على أن خطاب قوى الدين السياسي يعتمد على الإطلاقية، ويقينيات أحكام القيمة التي يطمئن إليها ويضمنها في فتاواه المتخلفة وخطبه الكهنوتية، لأنها تريحه من قلق المعرفة العلمية وتعفيه من أسئلتها الحارقة، كونها تصب في قناة حاجاته ومستنقع أهدافه، من خلال القطع المتعسف بين تاريخية الوقائع والنصوص التراثية التي تزامنت معها وانعكست فيها. استنادا إلى منهج خطابي يدغدغ العواطف وينوم العقول بالتغبية، ومستخدما لغة بيانية تلهب حماسة الجماهير لاستدرار عطفها طمعا في استمالتها، مستغلا ثقتها العمياء بالمقدس وفضاءاته المتعددة (مساجد، مزارات…)، وتنامي حاجاتها الروحية التي تشكل بالنسبة لها تعويضا وهميا لحاجياتها المادية ومتطلباتها المعيشية المتنامية. وكذلك تنفيسا عن أزمتها الخانقة في ظل الاستبداد والاستغلال المكثفين، وتصريفا لعقدة الاغتراب أمام المنجزات التكنولوجية التي أوصلنا إليها العلم الحديث، وفي غياب الثقافة الديموقراطية، ومحاربة العقلانية والإبداع الحر، مع زيادة جرعة النرجسية الدينية لديها (الجماهير)، ورفع منسوب التعصب للذات وإغراقها في هذيان الخطاب الديني الذي يعني الميتا تاريخ، ليصبح المتحكم الوحيد في تفكيرها وسلوكها اليومي. مما يعطي لجماعات الدين السياسي الذي يقف وراء هذا التجهيل الزاحف على المجتمع إمكانيات أكبر وفرص أكثر، ويمنحه مجالا أوسع لتدجينها والسيطرة عليها، ويسهل انقيادها وتوجيهها إلى الوجهة التي يريدها خدمة لمصالحه الضيقة ولمصالح أسياده البرجوازيين، بعد أن هيأ الأرضية اللازمة لذلك. أو ما يسميه غرامشي “الهيمنة الثقافية” للوصول إلى السلطة السياسية، وهنا تتجلى انتهازيته وتكمن خطورته وخطورة نزوعه الفاشستي بالتحديد. مستفيدا من مصادر التمويل المرصودة له خاصة أموال البترو-CIA، وغنائم الحروب التي يخوضها بالوكالة وعوائد الفيء التي يستهدف من خلالها الأفراد والمؤسسات، بالإضافة إلى فوائد تجارة الهامش وغسيل الأموال، مستعملا في نشر أفكاره الظلامية وسائط الاتصال الحديثة المتوفرة لديه: من قنوات فضائية، دور نشر، جرائد، مواقع إلكترونية …إلخ. وذلك في أكبر عملية خداع وتضليل لرسملة الدين يعرفها التاريخ، وتسييد المنطق التجاري الموازي لها (فالشركات الإسلامية لتوظيف الأموال تنسجم مع التوجه الرأسمالي الطفيلي)؛ وذلك باختراق قطاعات اقتصادية واجتماعية ومؤسساتية مختلفة، تؤمن له الاغتناء السريع والفاحش ضد مقاصد الدين نفسه، يفسره دفاعه المستميت عن الملكية الخاصة وتقديسها تقديس أعضائه لشيوخهم. وميل المنتسبين له إلى الاستهلاك واللذائذية، لترسيخ النزعة الغرائزية في أوساط الشعب، والاستفادة من ذلك في تدجينه، تساوقا مع تبخيسهم لثقافة الإنتاج وازدراء محفزاته وتحقير قواه الاجتماعية من عمال وفلاحين فقراء… والتعامل معه بانتقائية، خصوصا، أولئك الذين يستجيبون لأطروحاته الإيديولوجية التي تشكل عامل استقطاب مهم له. كل ذلك يدور فيه بإيعاز وتكامل من فتاوى الدعويين وخطب السياسيين. 

ويحدث تحت ذريعة نشر الدين وتوسيع نطاقه ليشمل كافة مجالات الحياة، أن يتم اجترار مقولات ضحلة ومفاهيم أكثر ميوعة وابتذالا، وبعيدة كل البعد عن واقعها التاريخي الذي تولدت فيه تلك المفاهيم في نسختها الأصلية والواقعية، قبل استنساخها ومسخها بسخام الظلامية التي خاض معها العقل المستنير صراعا مريرا، في ليل طويل تلوح من بين طياته تباشير الفجر الأولى. كيف تستقيم مفاهيم من قبيل نمط الإنتاج “الإسلامي” الذي ليس في حقيقته إلا فقه المكاسب، أو الدولة الإسلامية، مع أن الدولة لا تتحدد بنوع الدين السائد فيها، بل بنمط الإنتاج الذي يحدد شكلها وطبيعتها الطبقية؟ أو الاقتصاد “الإسلامي”(**) رغم أنه مفهوم غير تاريخي وبالتالي غير علمي؟  إذ لا يكفي أن يضاف لفظ إسلامي أو إسلامية حتى تكون له مكانة بين المفاهيم المؤسسة للمعرفة العلمية، أو يسقط ما في الذهن على الواقع، ليخضع الواقع لرغباته/ نزواته… ونكتفي بهذا القدر من الأمثلة التي تتلبس فيها المقولات الجوفاء لباس المفاهيم العلمية، بحيث لا تستقيم لأول خطوة تخطوها في مشيتها العرجاء، على درب الجهالة والانحطاط الذي لن تخرج منه إلا كمومياء محنطة في توابيت اللاهوت إلى متحف التاريخ، وعلى أكتاف الثورات الاجتماعية القادمة. مقولات تسقط صرعى أمام معول النقد العلمي والاختبار التاريخي على أرض الواقع، نتيجة التناقض الصارخ فيها: تاريخية أنماط الإنتاج وماديتها مقابل مثالية الأديان وغيبيتها. فكما يمكن للدين الواحد أن يعايش/ يتعايش مع عدة أنماط من الإنتاج، والعكس صحيح، أي أن تتواجد عدة أديان جنبا إلى جنب، قد تكون على نفس القدر من الندية، خلال مرحلة نمط إنتاج معين. أما الدولة فتتحدد بمدلولها الطبقي ووظيفتها النظرية والعملية، لا بصفتها الدينية كما يتوسلها لها عقل فقهي، هو وليد نشاط إيديولوجي تلجأ إليه الطبقات الحاكمة. ذلك أن التحديد اللاهوتي للدولة جعل منها كيانا خارقا ذا طبيعة سماوية ميتافيزيقية، والاقتصاد بدوره على نفس المنوال وفي ذات السياق لا يتخذ الصبغة الدينية، حتى وإن كان الدين من الناحية الإيديولوجية مسخرا لخدمته تنظيميا في الغالب، بل يتحدد من الناحية الإنتاجية بالأساس؛ فالاقتصاد مستوى من مستويات البنية الاجتماعية وليس جوهرا خارج التاريخ…

إن تحوير الصراع الطبقي عن مجراه الحقيقي، سعيا لإبطال مفعوله في محاولة لإخفاء واقع الاستغلال القائم، وتعطيل كل فعل نضالي تحرري ذا منحى تقدمي «عبر فرض ضغط ديني متزايد على الجماهير الكادحة»(29) حسب هادي العلوي، أي تسييد مناخ ديني عام بواسطة تقوية حاجات دينية متنامية، تكون قاعدة خلفية تتكأ عليها القوى الرجعية لتأبيد سلطتها. وهي المهمة الرئيسية الموكولة لهذا التيار الديني المتأسلم، حيث يقوم بها باستحقاق وجدارة تكافئه عليهما البورجوازية ومن ورائها الإمبريالية بأعظم سخاء وجزيل عطاء، مفسحة مجال التوسع والتمدد أمامه. لهذا نجد أن الدول والجماعات الدينية الأكثر عمالة أو استعدادا للتعامل مع الاستعمار، هي الأكثر تشددا وتزمتا في التعاطي مع الدين (السعودية، أفغانستان، الإخوان المسلمون، الحركة الوهابية…). لهذا فإن تحليل الخطاب الديني بمنهجية علمية، وتفكيك بنيته على ضوء المنهج المادي التاريخي أساسا، مع الاستفادة من بقية المناهج العلمية الأخرى، وقراءته باستعمال العلوم: كسوسيولوجيا الأديان، تاريخ الأديان المقارن، الانثروبولوجيا…إلخ يكشف طبيعته الرجعية ويفضح منطلقاته الرخوة ومسلماته الهشة، التي لا تصمد أمام مبضع النقد، إذ لا تماسك منطقي يسندها ولا موضوعية علمية تدعمها، لضعف المرجعية التي يقوم عليها، ولأن التناقضات الصارخة تشرخ هيكله المهترء وتعري حقيقة الأهداف التي يرمي إليها، والمكامن التي ينطوي عليها.

يعتمد الخطاب الديني على المصادر السماعية -الشفاهية (العنعنة) التي تعكس عالما بدويا (عالم الزراعة المنفعل، عكس عالم الصناعة الفاعل)، حيث يستقل اللفظ عن المعنى ويحل محل المفهوم، انطلاقا من سند سلفي يحث على التحصيل ويستثني إنتاج العلم والمعرفة لعداءه الشديد لهما، ولإدراكه مدى الخطورة التي يشكلانها على أساساته، فمن منطلق قياس الغائب على الشاهد، ورد الفرع إلى الأصل، والبناء على الدين، وإصدار حكم القيمة على الاستثناء، يصبح النص المغلق هو السلطة المرجعية الوحيدة للفكر الظلامي الذي يغيب العقل ويحنط اللغة في قوالب جامدة، لا فرق بين “المعتدلين” والمغالين فيه لأنهم جميعا لهم منطلقات واحدة ومنهجية أحادية الجانب.(30) إضافة إلى أنهم متوافقون من حيث الأساس الابستمولوجي وإن اختلفوا مذهبيا، بإعطائهم الأولوية للتعبير على التفكير من خلال الانشغال بموضوعات هي نصوص وليست وقائع. ورغم كون النص ثابت والوقائع حياة متجددة وصيرورة متدفقة تقوم العلاقة بين مختلف عناصرها على الديالكتيك، وليس على الترادف والاقتران، فإن الإيديولوجية الدينية تغيب السببية المادية ولا تعترف بالقوانين، هذا الذي يصب في خانة الرؤية السحرية للعالم التي تكرس الغيب والأساطير، وترجع كل الظواهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية… وما تسفر عنه من نتائج إلى علة واحدة وجوهر غيبي واحد هو الله/ المطلق. ولأنها مصابة بعقدة الأنا المتضخمة وبمرض العظمة المزمن تقوم بشخصنة التاريخ، إذ تغالي في تقديس وإبراز دور الأفراد من مشاييخ وأمراء وسلاطين… في تشكل التاريخ على غير حقيقته، وإظهاره بمظهر الخاضع الخنوع لمعجزات وبركة أولئك الأفراد الاستثنائيين. ويظهر اليقين الديني حاسما وقاطعا في تثبيت ذلك الاعتقاد الأعمى الذي أصبح لدى حاملي تلك الإيديولوجية من المسلمات التي لا يأتيها الشك من بين يديها ولا من خلفها، في خلطة عجيبة ومقصودة بين الدين والفكر دون توضيح للعلاقة الملتبسة التي تجمعهما، ولا للفرق الواضح القائم بينهما. 

إن أي دراسة تتناول جماعات الدين السياسي عليها أن تذهب مباشرة إلى برامجها السياسية والاقتصادية، فالحكم عليها سلبا أو إيجابا يجب أن يكون على أساس محتواها ووظيفتها الاجتماعية، وموقفها من التغيير والقضايا الجماهيرية، وعلى تحليل تركيبتها الطبقية وتحديدها تحديدا علميا دقيقا، وتبيان طبيعة ارتباطاتها الداخلية والخارجية، وليس الاقتصار على أفكارها المجردة وتصوراتها الميتافيزيقية، والوقوف على علاقة الوعي الديني بشروطه الاجتماعية، لأن إنتاجه أو إعادة إنتاجه كشكل تاريخي محدد من أشكال الوعي الاجتماعي خاضع للتغير والتبدل، فالوجود الاجتماعي هو الذي يحدد الوعي الاجتماعي وليس العكس.

فانطلاقا من تعدد أشكال الوعي يتعدد الوعي الديني كذلك، لتعدد القوى الاجتماعية المتصارعة في ميدان الصراع الطبقي، وتنازع أغلبها حق التمثيلية الدينية (الدين الرسمي، الدين الشعبي، الدين المؤسسي… كثرة التفسيرات والمذاهب والتأويلات…). فالدين بشكل عام كما سلف الذكر، شكل من أشكال الوعي الاجتماعي، بل هو الشكل الأكثر تدهورا من بين أشكال التعبير الإيديولوجي كما بين ماركس، وكتب انجلز بهذا الخصوص موضحا: «إن الدين هو في واقع الأمر انعكاس غير مادي في عقول الناس لقوى تسيطر عليهم في حياتهم اليومية».(31) إنه يقوم على الإيمان والاعتقاد الراسخ، لأنه تشكل في مرحلة تاريخية لم يعرف فيها الإنسان العلم القائم على العقل والتجربة بعد إلا في حدود ضئيلة جدا تكاد تكون دون تأثير يذكر. وعكس الدين جانبا من معاناة الإنسان، وفي ذات الوقت رفض الإنسان لتلك المعاناة في محاولته الإفلات من مخالبها، خلق عالما بديلا كتعويض له في الماوراء، وهو ما عبر عنه ماركس في كتابه نقد فلسفة الحق عند هيغل «التعاسة الدينية هي في شطر منها تعبير عن التعاسة الواقعية، وهي من جهة أخرى احتجاج على التعاسة الواقعية».(32) لهذا كله فإن الماركسية اللينينية لا تعادي الدين من حيث هو دين في  حد ذاته، لأن الإيمان الفردي مسألة خاصة وعلاقة نفسية ذات بعد شخصي، بل عندما يتم استغلاله في فرض الاستبداد وتبرير الاستغلال، وهذا ما يحدث في الغالب مثلما برهن على ذلك ماركس في “العائلة المقدسة”، عندما اعترض بشدة على آراء الهيغليين الشباب وانتقد موقفهم من الدين لما جعلوا منه عدوهم الأول والرئيسي، وهو موقف بوعي أو بدونه لإخفاء العدو الحقيقي كعدو طبقي. وأعلن مع انجلز في (الإيديولوجية الألمانية) «إن خصومنا هنا على الأرض، ولا يليق أن نهرب من هذه المواجهة لنصطنع خصوما في السماء». ولما كان الدين كذلك إيديولوجيا فهو ينطوي على مصالح طبقية ومطامع سياسية، فالقضايا الدينية، إذن، تتضمن صراعا اجتماعيا، وكل ممارسة دينية تستبطن لا شعورا سياسيا، لذا لا يمكن مصادرة فكرة المواطنة بفكرة الإيمان أو التدين مع اختلافه وتمايزه. كما لا يمكن مصادرة حق البشر في تقرير مصيرهم السياسي: (نوع الحكم الذي يتلاءم مع طموحاتهم المشروعة) والاقتصادي: (أسلوب نمط الإنتاج الذي يتناسب مع المرحلة التاريخية التي هم فيها) والاجتماعي: (التوزيع العادل للثروة بما يضمن حقوقهم في خيرات الوطن كاملة…). 

 لا يمكن إذن مصادرة كل ذلك بمبدأ الحاكمية لله تكريسا للاستبداد باسم الحق الإلهي، وتثبيتا للاستغلال تحت ذريعة سنة الله في خلقه، يرزق من يشاء بغير حساب، إهدارا للبعد التاريخي بالاستناد إلى نصوص تراثية منغلقة ومتزمتة (خاصة تراث المدرسة الحنبلية كما جاءت في كتابات ابن تيمية ق 14 الذي حرم المنطق والفلك والرياضيات وكفر الشيعة، المتصوفة، الفلاسفة، المعتزلة، وحتى الأشاعرة…) ورفع تلك النصوص إلى مستوى المقدس الذي لا يقبل النقاش، فبالأحرى النقد. كما أن الجماعات المتأسلمة تتجاهل الاتجاهات التقدمية في التراث ذات المنحى العقلاني- التنويري كالمعتزلة مثلا، ولوامع الفكر النقدي والفلسفي في حضارتنا العربية والإسلامية، أمثال ابن الراوندي، الرازي… المعري الذي قال ممتدحا العقل رافعا من مكانته إلى مصاف النبوة: «أيها الغر قد خصصت بعقل/ فاسألنه فكل عقل نبي» والقائل أيضا: «اثنان أهل الأرض: ذو عقل بلا دين وآخر دين لا عقل له». كما تنتصب الاتجاهات المتعصبة لوأد كل إرهاص عقلي نقدي يقترب من مكانتها في مهده، ولو تطلب ذلك اللجوء إلى العنف حتى وإن اتخذ فقط للتدليل على الغيب، وهذا ما وضحه الجابري بقوله: «فالعقل هنا مع المعتزلة وهناك مع الشافعي مجرد أداة (…) فهو في جميع الأحوال في خدمة الكتاب والسنة وليس بديلا عنهما».(33) أو تقوم بتشويه وتسفيه سير شخصيات ثورية ثارت في وجه الظلم المدثر بالعباءة الدينية أمثال أبو ذر الغفاري، غيلان الدمشقي، الجعد بن درهم، حمدان القرمطي… ومهاجمة كل من حاول قراءة الدين قراءة معاصرة كما حصل مع علي عبد الرازق، طه حسين، نصر حامد أبو زيد في مصر، ومحمود أحمد طه في السودان الذي تم إعدامه في عهد الديكتاتور جعفر نميري بتواطؤ مع رموز الظلامية السودانية، دون أن ننسى ما حصل عبر التاريخ من ملاحقات وتصفيات طالت أقطاب التصوف الإسلامي، خاصة الاجتماعي منه كالحلاج، السهر وردي… بالإضافة إلى معاداة المنطق وكل فكر حر نقدي؛ ألم يقولوا «من تمنطق تزندق» وأن «المنطق يقود إلى الفلسفة، وما يقود إلى الكفر كفر». وتغدو مقولة الترمذي: «من أصاب في القرآن بالرأي فقد كفر» بوصلتهم نحو التكفير. ويصبح التعصب الأعمى حصانهم الجامح لشن غارات الحرب المقدسة على الآداب والفنون بإعلان تعارضها مع العقيدة، واعتبارها نتيجة تأثيرات أجنبية معادية للإسلام، باللجوء إلى حرفية النص لإثارة صراع مفتعل مع الدين، لتغييب المشاكل الحقيقية وإلهاء الشعب بقضايا هامشية وثانوية. واستغلال ذلك بانتهازية سافرة وحساسية مفرطة لتكفير المثقفين المعارضين لتوجهاتهم وتوجهات أسيادهم وإهدار دمهم واغتيالهم: عمر بنجلون، مهدي عامل، حسين مروة، فرج فودة، شكري بلعيد، محمد البراهمي، ناهض حتر… واللائحة طويلة. في وقت تزداد فيه عقدتهم اتجاه المرأة وقضاياها التحررية تضخما كلما تم إ يثار الحديث بشأنها، إذ تشكل الموضوع الأثير لديها والوتر الحساس لتجنيد الأتباع الذين يوفرهم المجتمع الطبقي البطريريكي وأعرافه الذكورية التي تلهب العداء القائم على التمييز الجنسي. أما عداءها للماركسية وللشيوعية فما بعده عداء، وله أسباب وأسباب… إذ تختزلها في الإلحاد لا غير، مع أن الإنسان استقل عن الله بديكارت وليس بماركس كما أعلن مهدي عامل.(34) ولا يتم الحديث عليها -الماركسية- إلا وهي مقرونة بالغرب على نحو تضليلي مخادع، وبشكل مقصود لا مجال لحسن النية فيه طبعا، لاستمالة الجماهير المناهضة للإمبريالية التي تتركز في الغرب بالأساس… والتي تستعملها وتوظفها كورقة تخويف وفزاعة للضغط على الدول والشعوب حسب المعادلة التالية: إما مزيدا من التبعية أو ندفع بالحكومات الإسلامية إلى مقاليد الحكم والسلطة، إما أن تقبلوا بالأنظمة الاستبدادية أو نحرك عجلة الظلامية، وما أدراك ما الظلامية! فهي مستعدة للتحالف مع الشيطان حتى لمحاربتها الماركسية ومحاربة الشيوعية وملاحقة الماركسيين مثلما حصل في أفغانستان، أند ونسيا، السودان… والأمثلة كثيرة. في حين أن «نقض الماركسية للدين موقف طبقي، لا يطمح على إزالة الدين بل إلى تحطيم المجتمع الطبقي» مثلما وضح فيصل دراج(35)، لأنها تخشى على مصالحها ومصالح من يقف وراءها، والماركسية تهدف إلى الحرية الكاملة للإنسان وتحقيق كينونته، عكس الأيديولوجية الدينية التي تزيف الواقع وتشوهه، ثم تروج لفلسفة القبول بالأمر الواقع والتسليم به، وتكبل الحرية بقيود ما ورائية وترهنها بأوامر ونواهي جزافية محاولة تثبيت واقع مضى. وبالتالي تثبيت إيديولوجي لظروف وعلاقات تجاوزها الزمن وخلفها وراءه. إن خوف جماعات الدين السياسي من الشيوعية يعكس حقيقة الخطر الذي تستشعره على مصالحها الدنيوية بالأساس، وليس على الدين الذي تدعي الدفاع عنه، وقد صدق ميخائيل نعيمة عندما قال ساخرا: «الدين الذي يخشى الشيوعية، الشيوعية أفضل منه».(36)

يعتبر الاستبداد الديني أشد أنواع الاستبداد خطورة لأنه قائم على الوثوقية العمياء، وعلى نهج التهويل لزرع الرعب الذي تتغذى منه في النفوس، تمهيدا للإطباق على المجتمع وإخضاعه للسيطرة المطلقة؛ والديكتاتورية الدينية أخطر أنواع الديكتاتوريات لأن لها جرعة زائدة في العنف والإرهاب والتعصب، ولنا أمثلة عديدة تشهد على ذلك (إندونيسيا، أفغانستان، الصومال…إلخ). «لأن الدين بقيامه على الإيمان هو من مقومات الشخصية القمعية»(37) حسب هادي العلوي، الذي كشف عن عقدة خطيرة ناتجة عن المغالاة في التدين سماها «الوجدان القمعي»، مؤكدا في نفس السياق «أن القمع لا يشترط الدين، فأسبابه (القمع) ودواعيه متنوعة، في حين أن الدين يستدعي القمع». هناك عوامل عدة تساعد حتما على ذلك، وتزيد من تأجيج الحقد، وإقصاء الآخر بكل الوسائل الممكنة بما فيها الإرهاب المسلح لخلق حالة رعب دائم. بحكم طبيعة التربية التي تنتج الكراهية الدينية بالقهر والحشو والتلقين، وإعلام يقدم الجهل أكثر مما يقدم العلم والمعرفة، ويخلق أساطير وخرافات حتى ولو تعارض ذلك مع الواقع الموضوعي، ويعيد إحياء كل أشكال الاستلاب التي تشيء الإنسان وتسلعه وهو الذي يعتبر امتدادا واستطالة للطبيعة.

تحتم علينا المواجهة كمناضلين شيوعيين ضد القوى والاتجاهات اليمينية الرجعية بمختلف تلاوينها ومذاهبها، سواء الاتجاهات العرقية الشوفينية،(38) أو التي تتستر وراء الدين لتحقيق مآرب سياسية محضة وأهدافا مادية صرفة، في إطار الصراع الطبقي الشامل والذي نسعى إلى تأجيجه في أفق حله حلا ثوريا، كتناقض رئيسي يخترق البنية الاجتماعية، ومنه تتفرع بالضرورة باقي التناقضات الأخرى. عوض تطامنه وتساكنه الذي تعمل الطبقات الحاكمة الرجعية مسنودة بالقوى الظلامية وأيديولوجيتها الدينية، على تأبيده بكل الوسائل المتاحة لها، وفي مقدمتها الدين لأنه يخدم مصلحتها بالذات. لهذا تمنع بالقمع المادي والرمزي أي نزوع تحرري يرتكز على منهج ثوري وفكر عقلاني نقدي، يستند على الجماهير الشعبية ذات المصلحة الأولى والأخيرة في التغيير الجذري وإقباره في المهد، وتحاصر أي إمكانية لدراسته دراسة عملية موضوعية في إطار وحدة الظاهرة الدينية، وإن كان هناك اختلاف في الخصوصية. لأن الدين بصفة عامة له جذر واحد مشترك منه تكون بدءا من الإحيائية مرورا بالمرحلة الطوطمية… ثم تطور بعد ذلك تبعا لنمو العامل الاجتماعي والاقتصادي عندما ظهرت قوى اجتماعية متسلطة إلى جانب أخرى طبيعية قاهرة. ومن هنا قول ماركس «صاحبت ولادة الأديان الكبرى ترسيخ دعائم الدولة تشكيل الأمم وعدائية الطبقات».(39) إن من شأن إعمال العقل العلمي الموضوعي نقيض العواطف الوهمية الذاتية في مقاربة هذا الحقل الملغوم، وتحديد الموقف الثوري السليم منه والالتزام به والعمل على ضوءه، ارتكازا بالخصوص على الفكر الماركسي اللينيني وموقفه العلمي من الدين، أن يزعزع أركان السيطرة الطبقية للطبقات الحاكمة، ويهدد بقاءها وينسف تحالفاتها المشبوهة. من هنا نجدها أشد حرصا من غيرها على استغلال الدين استغلالا فاضحا في برامجها السياسية، وتطبيقاتها الاقتصادية واختياراتها الثقافية… التي تؤمِّن لها تجدد السيطرة. وتواجه بالتالي كل محاولة جريئة لرسم الحدود بين المجالين الديني والدنيوي والفصل بينهما الذي يعتبر ضروريا من منظور الصراع الطبقي وزاوية النظر فيه. أولا لأنه مسعى إنساني تقدمي، ثانيا بما يحفظ لكل منهما فضاءه الخاص به، حتى لا يكتنف الاثنين معا غموض العلاقة الملتبسة الناجمة عن تداخلهما في إطار الدولة الدينية، وارتدادتها الإيديولوجية البرجوازية التي تقف بالمرصاد لأي تحرك نضالي، يستهدف نزع قناع المقدس عن المواقف السياسية والبرامج الاقتصادية الموازية لها والاجتماعية المنبثقة عنها. لأن من شأن ذلك خصوصا إذا اتخذ منحى جماهيريا شعبيا كما أسلفنا جعل أوجه الصراع المقنعة تبدو سافرة، وإظهارها على حقيقتها كصراعات طبقية بين مختلف القوى والطبقات الاجتماعية، لا كصراع بين الإيمان والكفر، أو بين الفرد والجماعة، إلى غير ذلك من التنويعات والتخريجات التضليلية لطمس حقيقة ذلك التناقض المحوري الذي يخترق البنية الاجتماعية، في محاولة يائسة لإلغائه وهو المتمنع عن ذلك، وإفراغه من مضمونه السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وجريا كذلك وراء تشويه باقي التناقضات الناجمة عنه وتنميطها حسب مقتضيات الصراع الطبقي. وهذا ما تقوم به الطبقات الحاكمة في البنيات الاجتماعية الكولونيالية، سائرة على نهج من سبقها من القوى الطبقية التي سيطرت عبر مختلف مراحل التاريخ منذ أن انقسم البشر إلى طبقات متناحرة، وهو ما كثفه لينين في هذا النص العميق الدلالة والصارخ في ملامسته حقيقة الواقع الغني بتعقده، «تحتاج كل الطبقات المضطهدة لصيانة سيطرتها إلى وظيفتين اجتماعيتين: وظيفة الجلاد ووظيفة رجل الدين، فيقمع الأول احتجاج واستنكار المضطهدين، ويواسيهم الثاني ويمجد تعاستهم وشقائهم من خلال آفاق تبقي سيطرة الطبقات، أي أنه يصالحهم مع هذه السيطرة ويحرفهم عن الفعل الثوري ويحارب تصميمهم الثوري».(40)

 بمعنى أن الطبقات الحاكمة تحتاج إلى الزج بالدين ليشكل بديلا زائفا للصراع الطبقي، فأكثر الناس بؤسا هم أشدهم حاجة إلى السلوان، وهذا ما تؤكده مقولة ماركس الشهيرة «الدين أفيون الشعوب»، ويثبته قول انجلز في “أنتي دوهرينغ” أن «الدين ليس إلا الانعكاس الخيالي في رؤوس الناس لتلك القوى الخارجية التي تتحكم بوجودهم اليومي، فهو انعكاس تتخذ فيه القوى الأرضية شكل قوى فوق أرضية».(41) إن إخفاء واقع الاستغلال وراء ستار أسود من التبريرات المستوحاة من حرفية النصوص الدينية، وبالتالي التسليم به كمعطى طبيعي ملازم للإنسان، كما فعلت الجبرية الإسلامية التي هيأت التربة الإيديولوجية اللازمة لحكم الأرستقراطيات العربية والإسلامية فيما بعد، هي مهمة الكهنوت الديني وفقهاء السلاطين، يساعدهم في ذلك الدمج بين الجانب العقائدي بالجانب السياسي. حيث شكل تداخلهما تغول المؤسسات الدينية باعتبارها جزءا من الأجهزة الإيديولوجية للدولة ومن أهم دعاماتها. مما أعطاها القوة على إظهار كل هجوم سياسي يستهدفها ويستهدف بالتالي وظيفتها التثبيتية والتثبيطية، على أنه استهداف للدين كمعتقد، وإبطال فاعلية أي نقد يروم كشف تلك العلاقة الملتبسة بإشهار سلاح الدين نفسه، وجر معارضيها إلى معترك الحقل الديني عينه، والذي لها بالضرورة موقع القوة والسيطرة فيه. لأن من يملك السلطة السياسية يحتكر التأويل ويجد له مسوغاته النصية، وأي مواجهة من الموقع المسيطر وعلى أرضيته محكوم عليها بالفشل حتما. ولنا في اندحار الثورات الاجتماعية التي تلونت بالصبغة الدينية دليل على ذلك (الثورة البابلية، ثورة النبط، القرامطة…). وهو ما أشار إليه انجلز بصدد حديثه عن ثورة الفلاحين في ألمانيا التي تسربلت بغطاء ديني، كان أحد أهم إصابتها في مقتل. 

ولما انبنى التاريخ كنقيض للأسطورة، فلا يمكن الجمع بينهما بأي حال من الأحوال بطرح بدائل هلامية تتنافى مع الواقع الذي يرفضها، فالارتفاع بالنسبي إلى درجة المطلق لإضفاء القداسة الأسطورية عليه سيرتد إلى مهزلة يسخر منها العقل، لاتسامه بالواقعية والموضوعية. ومن أسباب نكوص مجتمعاتنا العربية تدخل التفكير الغيبي في مختلف جوانب الحياة العامة وتداخله مع الملموس التاريخي، حيث يعكس التناقض الصارخ بين شكل تسيير الدولة والاقتصاد المستوحى من التحديث، والحياة الواقعية المرتبطة بالأرثوذكسية الدينية المتزمتة؛ واقع الأزمة التي تتخبط فيها البورجوازيات الحاكمة في الأقطار العربية، وماله من تداعيات وخيمة على شعوبها المحكومة بالقمع وإرهاب الدين السياسي الذي يتصاعد يوما بعد يوم، ويتخذ أشكالا مسلحة بفعل عوامل داخلية، وتدخل العامل الخارجي الذي يرعاها ويوجهها ويؤججها ويزيدها احتراقا بإثارته النزعات الطائفية والعرقية، التي تغذي التعصب المتأسلم الموصوف بنزعتي “الجهاد المقدس” كما هو باد في (العراق، ليبيا، سوريا…). كل هذا يحتم علينا كماركسيين لينينين من واجبنا إلى جانب باقي القوى التقدمية، الاستجابة لنداء العقل وللشروط التاريخية للمرحلة الراهنة التي تتطلب منا، كفاعل تاريخي، جرأة في التعاطي مع المسألة الدينية وإشكالاتها الحارقة، وذلك بتفادي أنصاف الحلول “فالوسط سيف خشبي” بتعبير ماركس، وتجنب التردد والمواقف النفعية التوفيقية والتلفيقية، كالمغازلة القائمة حاليا بين بعض الاتجاهات الانتهازية اليمينية داخل القوى التقدمية -والتي تنتحل الماركسية تحريفا- وبين بعض الجماعات الظلامية الفاشية. فكل المحاولات التي انطلقت في مختلف أنحاء العالم لخلق منظمات سياسية تمزج بين الدين السياسي والماركسية باءت بفشل ذريع، إذ أن الدمج بين العقل والإيمان مستحيلة استحالة الجمع بين العلم والخرافة، الفلسفة والدين، ولنا في التاريخ شواهد (حالة ابن رشد، مثلا أحد أكبر ممثلي الفلسفة التوفيقية من حيث الجوهر). إن نمو وتعاظم الصراع الطبقي يضع ضمن قائمة الأولويات خوض الصراع الإيديولوجي دون هوادة، ضد النظام الملكي الرجعي ورتله الخامس المتمثل في الجماعات الظلامية المتأسلمة، التي تسنده كلما تصدعت مواقعه الإيديولوجية الأخرى وتزودها بسلاح المواجهة الفكري، وترفده بمنومات يمكن أن تستعمل كذلك  -للمفارقة التي تتضمنها- كمهيجات لمحاصرة المد الثوري وكبح تدفقه عند كل فورة أو تنامي يحركه، والأمثلة عديدة ومتنوعة: (الإمبريالية وخلق الجامعة الإسلامية في الجمهوريات السوفياتية لمحاصرة الثورة أيام لينين الذي تصدى لها بحزم، الحلف الإسلامي ورابطة العالم الإسلامي لضرب المد التحريري المتصاعد آنذاك…). 

لقد بات مؤكدا فشل جميع التجارب الثيوقراطية التي استفردت بالحكم على كافة المستويات والأصعدة، في تحقيق آمال الجماهير الحالمة بغد أفضل ومستقبل مشرق، بعد حملات التضليل والخداع الواسعة التي تعرضت لها. بل زادت في تكريس واقع التخلف والاستبداد وعمقت الاستغلال إلى هوة سحيقة يصعب ردمها، وكرست التبعية إلى مستويات لا قرار لها. كل ذلك يعطي المشروعية لرفض والتصدي للمحاولات المتهافتة لـ”أسلمة” العلوم والمعرفة والفن والأدب، وتشكيل القيم المجتمعية بواسطة التسطيح والتلقين على قاعدة التزمت والانغلاق، بجعل العلم يحتل مواقع اللاهوت فيها (المستويات المذكورة)، وجعل العقلانية تزيح الميتافيزيقا من مواقع الحياة وأوجهها العامة. المطلوب هو الدفاع عن حرية المعتقد وحرية الضمير، كحاجة مجتمعية داخلية (مطمح تقدمي اجتماعي يعكسه موقف سياسي بامتياز، يبقي مجال المقدس بعيدا وتحييده عن الصراعات الاجتماعية وتفاعلاتها في إطار الوحدة الوطنية وضمان سيادتها)، ضد كل التحفيزات والمحرضات الخارجية (توظيف الدين السياسي لصالح العدوان الامبريالي والصهيوني الذي لم يتوقف يوما على استهداف الوطن العربي بالتمزيق والاحتلال والنهب واستباحة دماء شعبنا، وكذلك التحالفات الرجعية العميلة بأدوارها الوظيفية الموكولة إليها). وتزداد ملحاحية حرية المعتقد بالخصوص في البلدان التي تتعرض لإذكاء الصراعات الدينية والنعرات الطائفية والمذهبية، التي تشوه الصراع الطبقي وتشوش عليه، إضافة إلى أنها تهدد المجتمع بالتمزيق والحروب الأهلية وتضعه على حافة التفكك والانهيار. إنها بهذا تدخل -حرية الضمير والمعتقد- ضمن ضروريات الوطن القصوى ليستمر في البقاء ويرتقي في الحياة، إن تحرير الدولة من إقحام الدين فيها شرط ضروري لا محيد عنه لتوطيد اللحمة الوطنية والقومية، بما يسمح ببناء وإقامة وطن حديث قوي ومتماسك يضم مواطنين ينتمون إلى ديانات وطوائف مختلفة. وتكون للجميع فيه حرية تبني المعتقد الذي يتلاءم مع حاجياته الروحية، ويناسب تشكله النفسي وتكوينه المعرفي، ويكفل حرية الضمير بالنسبة لغير المؤمنين (اللادينيين) الذين لهم حق عدم اتخاذ أي معتقد، كلٌّ بناء على قناعته المترسخة لديه على قاعدة احترام الآخر، والسماح للجميع على قدم المساواة بالتعبير عن أفكاره وآرائه بكل الوسائل المشروعة والممكنة، التي يجب أن تكون متاحة للكل دون تمييز أو إكراه وتحرير الضمير من الأوهام. وهذا هو مطلب ماركس في (نقد برنامج غوتا) لما كتب قائلا: «يجب أن يكون كل إنسان قادرا على تلبية حاجاته الدينية والجسدية، دون أن يحشر البوليس أنفه في ذلك».(42)

وارتباطا بالموضوع ذاته، تجدر الإشارة مرة أخرى، إلى أن الماركسية اللينينية تنظر إلى الدين من زاوية موقفه من الثورة، يكون تقدميا بقدر وقوفه إلى جانب القوى الثورية، وينقلب رجعيا عندما يتخذ موقع العداء منها؛ وفي هذا الإطار يمكن أن يلعب دورا إيجابيا هاما في دعم الحركة الثورية خصوصا في مواجهة العدوان الخارجي والتصدي للاستعمار، ولعل نص لينين الآتي يوضح مسألة ظهور حركات دينية احتجاجية مناهضة للظلم والعدوان: «إن بروز الاحتجاج السياسي المرتدي ثيابا دينية هو ظاهرة تلازم جميع الشعوب في طور محدد من تطورها».(43) إلا أنه في الغالب الأرجح كما دلت التجارب الماضية والحالية، يتم توظيفه من الطبقة البرجوازية كحاجز صد في وجه الثورة، خصوصا لما بدأت تتضح معالمها الطبقية كثورة بروليتارية تستهدف نسف بنى المجتمع الطبقي، بوعي طبقي يؤسس له الفكر الماركسي اللينيني.

من الضروري أن نشير كذلك إلى أن التاريخ لمكره وسخريته، قد ألقى على مسؤولية تحالف القوى الثورية بقيادة الطبقة العاملة في البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة، وهذا قدرها -إن جاز التعبير لنبرته الإيمانية- مهمتين مزدوجتين ومترابطتين في آن واحد:

مهمة تحقيق السيادة الوطنية كاملة، بالقطع الكلي والجذري، مع علاقة التبعية التي تجمعها بالإمبريالية من موقع التابع الضعيف.

2- مهمة القضاء على علاقات الإنتاج الكولونيالية بكل ما تتضمنه من هياكل وبنى قروسطية عتيقة ومعيقة للتقدم، وعلاقات بالية يعاد إنتاجها وقولبتها متجددة بتجدد علاقة التبعية المشار إليها أعلاه. وكلتا المهمتين فشلت فيهما البورجوازية التبعية فشلا ذريعا رغم مختلف التجارب والأطوار التي مرت منها، عكس البرجوازيات الرأسمالية الحديثة التي قضت عليها وبنت على أنقاضها علاقات إنتاج رأسمالية جديدة، ألغت بالضرورة الحروب الدينية والصراعات الطائفية في بلدانها بصورة عامة (مع بعض الاستثناءات الضئيلة جدا، الحالة الايرلندية…) لأن ذلك من مصلحتها الطبقية. فهي ابتداءاً حاربت المؤسسة الدينية ولو على صعيد البنية الفكرية، بمحاربتها بقايا الإقطاع. لكنها سرعان ما استدعت الدين السياسي في محاربتها للشيوعية بتنشيط جهاز قمعها الإيديولوجي وتشحيم دواليبه حتى لا يطالها الصدأ. فهي لم تلغ الفكر والتصورات الدينية لأنه لا يدخل في أجندتها، كما لم تلغ الصراعات الاجتماعية بل زادت في تعميقها. هذه الأخيرة لن تجد حلها النهائي حتما، إلا بإلغاء التمايزات الطبقية عبر استئصال أسبابها، ونزع مولداتها بالقضاء على نظام الملكية الخاصة وإقامة نظام المنتجين الأحرار، ليستأنف التاريخ رحلته الإنسانية التي انقطعت منذ نهاية مرحلة المشاعية البدائية، يوم انقسم المجتمع إلى طبقات متناحرة سائدة وأخرى مسودة. ببناء المجتمع الاشتراكي المفضي إلى الشيوعية حيث يستعيد الإنسان حرية كاملة دون نقص أو تجزيء. 

       على غرار أنظمة الحكم الاستبدادية، عمل النظام الكمبرادوري في القطر المغربي على إضفاء صفة دينية لحكمه الرجعي باعتباره “أميرا للمؤمنين”، فسعى بمختلف أجهزته الاديولوجية إلى تفجير وإذكاء صراع وهمي يدور على أرضية غيبية تحصره بين الإيمان والكفر، وتعميق الاستقطاب بين علمانيين وإسلاميين. بحيث يتبدى النظام السياسي كحَكَمٍ فوق الطبقات وملاذ يتم الاستنجاد به من كلا الطرفين. وقد انخرط “اليسار” الانتهازي في تكريس التضليل من بوابة دخول بعضهم في أشكال من التنسيق مع جماعات ظلامية، من موقع الذيلية والتبعية لها، واعتباره لها “قوى حية” من أجل مناهضة ما يسميه “المخزن”. فيما ارتمى آخرون في حضن النظام متوهمين أنه أهون الشرين مقارنة بخطر قوى الظلام. وكلا الطرحين بقدر ما يعبر أصحابه عن ضعف وردة ونكوص وضيق أفق برجوازي صغير، فإن كلاهما يتموقع ضد الجماهير الكادحة وينزلقان إلى الموقع السياسي للطبقة البرجوازية، وإن بدا اختلاف شكلي بينهما في المظهر فإنهما يلتقيان في العمق والجوهر. فكلاهما في نهاية المطاف يخدمان جماعات الدين السياسي ويسهمان في إعادة ترميم فكرها الظلامي وتلميعه وإعادة “تجديد” قديمه، ليستحكم على عقول الجماهير أكثر وبما يخدم قوى الاضطهاد الطبقي التي توظفه، ويسهم في التمويه على الصراع الطبقي وإطالة أمد حكم هذا النظام الرجعي، وإبقاء علاقة التبعية البنيوية للرأسمالية الامبريالية. فيما المطلوب هو خوض وتأجيج الصراع الطبقي على جميع مستوياته ضد النظام وضد الجماعات الظلامية، والاختلاف هو في تاكتيك هذا الصراع ضد كل طرف على حدى.  

1- في كتابه: جهاد النكاح ذكوري لا ديني، الطبعة الثانية 2014، يرى الدكتور عادل سمارة أن فتوى جهاد النكاح «تم إنتاجها ضمن خطاب من بلاد الريع النفطي المحول إلى فائض مالي حيث ثقافة محافظة (…) بل لا إنسانية تجاه المرأة، أي ثراء معولم وثقافة قروسطية سعودية وهابية بينما تم تطبيق هذه الفتاوى في بلاد العجز الاقتصادي والثقافة العلمانية». (أنظر الصفحات: 25 و26 وكذلك 114 و115). 

2- فؤاد زكريا، الصحوة الإسلامية في ميزان العقل، الطبعة الأولى 1985- الصفحة 35 و36.

3- سمير أمين، نقد نقد إلياس مرقص، النهج عدد 63، 2001، الصفحة 102.

4- رفعت السعيد، مجلة “الهدف”، العدد 1233، 18/02/1996.

5- مهدي عامل، نقد الفكر اليومي، الطبعة الثانية 1989، الصفحة 186.

6- مهدي عامل، نفس المرجع أعلاه، أنظر هامش الصفحة 220. 

7- عادل سمارة، ثورة مضادة، إرهاصات، أم ثورة! طبعة 2012، الصفحات 312 و313. 

8- عادل سمارة، نفس المرجع أعلاه، الصفحة 313.

9- سمير أمين، نقد خطاب الإسلام السياسي، الطبعة الأولى 2010، الصفحة 30.

10- سمير أمين، نفس المرجع، الصفحات 8 و29.

11- جريدة “المساء”، العدد 234، الصفحة الأولى، 20 يونيو 2007. 

12- صادق جلال العظم، ما بعد ذهنية التحريم، الطبعة الأولى 1997- الصفحة 457. 

13- هادي العلوي، فصول من تاريخ الإسلام السياسي، الطبعة الثانية 1999- الصفحة 452. 

14- فرانسوا بورجا، الإسلام السياسي، طبعة 1994، ترجمة لورين زكري- الصفحة 35. 

15- محمد ضريف، الإسلام السياسي في المغرب، الطبعة الثالثة 1992، الصفحة 227. 

16- محمد ضريف، نفس المرجع السابق، الصفحة 260.

17- محمد ضريف، نفس المرجع السابق، أنظر الصفحات من 262 إلى 266.  

(*) للإشارة يكاد لا يوجد نظام حكم عربي لا يزعم أنه من سلالة الرسول، في توظيف للرسول لصالحه وكأن نصف الأمة العربية والإسلامية من نسل الرسول!!!

18- سعيد لكحل، الشيخ عبد السلام ياسين ووسواس المهدوية، الطبعة الأولى 2003، الصفحة 28. 

19- من منشور للجماعة بعنوان: “توضيحات”. 

20- محمد ضريف، نفس المرجع أعلاه، الصفحة 4.

21- محمد ضريف، نفس المرجع أعلاه، الصفحة 4. 

22- علي عبد الرازق، الإسلام وأصول الحكم، الصفحة 89. 

23- عبد الله حمودي، الشيخ والمريد، الطبعة الثانية 2000، الصفحة 90. 

24- كارل ماركس، الرأسمال، الجزء الأول، الصفحة 19.

25- كارل ماركس، نقد فلسفة الحق عند هيغل، الصفحة 1، pdf.

26-   كارل ماركس، 18 من برومير، مختارات الجزء الأول، الصفحة 151 و152، دار التقدم.

27- مهدي عامل، نفس المرجع السابق، الصفحة 199.

28- حسين مروة، دراسات في الفكر والأدب، الصفحة 205، الطبعة الاولى 1973. 

 (**)  إن الدين الإسلامي كما هو في النص وفي مرحلته التاريخية كذلك، هو تعبير عن نمط من الإنتاج ما قبل رأسمالي. ولذا، فالحديث عن اقتصاد إسلامي في العصر الحديث وهيمنة أنماط إنتاج متقدمة تطابق تطور المجتمعات، هو حديث الشد إلى الوراء، وإعاشة اليوم في الأمس.